من منظور نفسي، يرى مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور” أن استبدال الحوار بلغة القمع، في المجتمع المتخلف لا يقوم به المستعمر فقط وإنما قوى التسلط الداخلي كذلك، ولا تقتصر ممارسته على العنف الصريح أو القمع الظاهر، ولكن يمكن للعنف المبطن والقمع المستتر أن يمارَس على نطاق أوسع وأكثر تغلغلاً، وتحت أكثر الشعارات بريقاً ونبلاً.
قلق عبد الحميد وإحساسه بالخطر أثناء فترة المراقبة يدفعه إلى الاستغراق في القيام بتدابير احترازية حتى قبل أن يتأكد من حقيقة وجود تهديد. في مقابل إنكاره الشعور بالخوف، تكشف زلات لسانه عن خوفه، فيعاجلها باستخدام كلمة أخرى في جملة مناقضة لما سبقها.
الممنوع يزحف ويمتد
يؤمن الضابط أن مناطق تواجد الأمن هي أماكن يحظر الاقتراب منها، من منطلق كلمة اسمها “ممنوع”. ولأن المبدأ الأمني لا يتجزأ على حد قوله، “أنا بتحط في مكان، يبقى ده حرم أمني”. يقول إن غاية ذلك هو منع الخطر قبل حدوثه. ينفي فكرة الخوف من الناس كمحرك لهذه المبادئ الأمنية. لكن كل شيء يؤدي إلى الخطر عنده هو مدعاة للخوف. يوضح: “أنا عارف أي حاجة تؤدي للخطر”.
تفسر ورقة بحثية لدكتور الدراسات الشرق أوسطية فؤاد إبراهيم ذلك بأن استحواذ الخوف على الإنسان يستنفذ طاقته في تصنيع التدابير الاحترازية الحمائية، وهو ما تنهمك وسائل صناعة الخوف لإدامته.
ويشير إبراهيم إلى أن ثقافة الخوف يمتد تأثيرها ليستوعب الدولة بكاملها، فـ”الخوف يسري في أحشاء رجل السلطة بنفس القدر الذي يطال رجل الشارع، فالكل في الخوف سواء”.
الأذى يساوي الخطر لدى عبد الحميد، إلا أن تعريف هذا الأذى نفسه غير واضح. أما نظرته إلى نفسه فهي أوضح ما لديه. يردد بيقين: “أنا القائد. أنا المسؤول. أنا الموجود في المعادلة، دا كده بسم الله الرحمن الرحيم، قبل أي حاجة يعني”. بموجب هذه “المسؤولية” عن المحيطين به من عساكر ومدنيين، يوزّع المهام على الكل ويباشر بتنفيذها.
يعتقد حجازي أن علاقة القمع تحتاج إلى تغذية نرجسية السيّد، إلى مزيد من تضخيم أناه، حتى لا يهددها بروز الحس الإنساني أو التعاطف.
أي مصدر للتهديد هو شيء يخالف مفهوم الأمن الخاص بعبد الحميد. التصوير في مقدمة هذه المصادر. يضرب مثالاً: “زي ما حد يجي يرمي زبالة عند بيتك”. التصوير عنده كإلقاء القمامة. يخالف المصور “قانونه” على حد تعبيره. مخالفة قانونه خطأ. لا يحب عبد الحميد أن يرى الخطأ، حسبما يقول. محددات الخطأ لا تشترط وجود نص أو تحذير معلن في لافتة أو إشارة.
يرى أن عدم وجود تحذير “ممنوع الاقتراب أو التصوير” لا يعني أن العكس مسموح به، لأن الناس تعي جيداً أن التصوير ممنوع. لا يقف هذا المنع عند المنشآت العسكرية أو الأمنية. ينسحب أيضاً على الأفراد، التجمعات، الحراسة في الشوراع، وأي مؤسسة خدمية. التصوير في تقديره هو أحد أشكال المراقبة. “متصوروش الناس ولا أماكن الناس حتى”، يقول.
بالرغم من إدراكه للفوارق بين الخطر ودرجاته تبعاً لكل منطقة، إلا أنه يعوّل على المعرفة الضمنية بارتفاع واتساع مفهوم “الممنوع” لدى الناس، فيما تؤول له مسؤولية حمايتهم وتحديد المسموح والممنوع.
غياب سيطرته على مصير الصور، وهوية صاحبها وأسبابه لالتقاطها، أمر كافٍ لسيل من التكهنات على شاكلة “مش يمكن عايز يقتحم، وأنا أضمن منين؟”. حينما يأتي على ذكر رأيه في خطورة التصوير على نفسه، يقول “يموتني” متابعاً: “غلط جداً طبعاً”.
يقول الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”: “إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه” ويتابع: “الناس هم الأسرى الذين يقدّمون قرابين الخوف”.
استمر الحوار حوالي ساعة. على مدارها، كرر عبد الحميد الكلام نفسه لمرات متتالية، وتخللت إجاباته الكثير من الـ”اممم”. كان يتجاوب بدون تسلسل منطقي في ترتيب أفكاره، وبدون اتساق بين الرد والسؤال. في مواجهة صياغات متباينة لأسئلة تُوجَّه إليه، يجديد القفز من فكرة إلى أخرى. يرفض إعطاء أمثلة أو مواقف بدون قول “لا” صريحة.
“الخوف لا يقلّ، يزيد فقط”
قبض على الصحافي عبد الباسط (28 عاماً) في شتاء 2015، وسط ميدان المطرية، الذي مثل نقطة تمركز أمنية لفترة طويلة. مهمة النقطة كانت التعامل مع تظاهرات واحدة من بؤر الاحتجاج ضد نظام ما بعد الثالث من يوليو. نزل عبد الباسط لتغطية إحداها. فُضّت التظاهرة، فذهب للقاء أصدقائه. في الطريق، سحب شرطي هاتفه من داخل “توكتوك” كان يستقله. أمره بالنزول. فتش الهاتف، الحقيبة، الملابس التي كان يرتديها. جرده من كل ما معه، وزج به داخل عربة مدرعة.
يجول عبد الباسط بعينيه في المكان قبل أن يحكي: “خدوا كل حاجة، حتى الفلوس والحزام اللي كنت لابسه. غموا عيني بتي شيرت مقطع”، ويتابع: “كنت خائف، منطقتش بكلمة”.
قانوناً، الحياة الخاصة بما تشمله من مراسلات واتصالات المواطنين محمية بنص الدستور، وتفتيشها مخالفة.
بالنسبة إلى عبد الباسط، ذروة الخوف هي لحظة “الاعتقال” الأولى، لكن الخوف من المجهول رافقه طوال الوقت، ولا سيما في بداية كل مرحلة من “رحلة الاعتقال”، وكذلك لحظات الظلام، التي استمرت 18 ساعة. يزمّ شفتيه ويقول: “مفيش حد هيبقى مطمن وهو متغمي”.
يشرح ما كان يجول في ذهنه وقتها: “لا أعرف إذا كنت سأحبس أم سأذهب لأمن دولة، سأختفي قسرياً، كم من الوقت سأعذب؟ متى ستأتيني الضربة؟ ومن أي مكان؟”.
واحدة من سمات ثقافة الخوف وفقاً لإبراهيم، هو كونها “تعطيلية”، وترهن الجماعة لحكامها عبر بث “الخوف من المجهول وعنصر المفاجأة واللامحسوب”.
يقول عبد الباسط إن خوفه “لم يقلّ، الخوف يزيد فقط”. في المدرعة، وجد شخصين تعرّضا للضرب بطرق مختلفة. هُدّد بالاعتداء الجنسي على نساء أسرته. طُلب منه تسليم آخرين مقابل إطلاق سراحه. خوفاً من مزيد من الضغط، قابل كل ما سبق بالصمت التام حتى لا يشعر الضابط المسؤول والعساكر بضعفه. يفسر: “لو حس إنك بتيجي بالضغط، يبقى شكراً، هيستنزفك لغاية ما تعمل اللي عمرك ما تتخيل إنك تعمله”.
بعدها بفترة، دُفع ومَن معه إلى ميكروباص، لنقلهم إلى قسم المطرية. عُذّبوا هناك. ومنه نُقلوا إلى قسم الأميرية ليعرضوا على أمن الدولة (الأمن الوطني حالياً). عرف أسماء هذه الأماكن لاحقاً. تركوا لثلاث ساعات في غرفة ضيقة. دفعوا ثانية إلى سيارة ترحيلات لتنقلهم إلى معسكر السلام، حيث حقق معهم ضباط أمن الدولة.
على مدار “رحلة الاعتقال”، كان عبد الباسط مقيّد اليدين، معصوب العينين، حافي القدمين. كل خطوة يخطوها يرافقها السباب والركلات والصفعَات والضرب بعصا خشبية. جرحت رأسه إثر ضربة. يصف وضع المقبوض عليه بـ”المستباح”، وهو ما يزيد اضطرابه، بالإضافة إلى تخيّل بعض السيناريوهات المحتملة مثل “التصفية”، أو البقاء في أمن الدولة لأجل غير مسمى.
بالرغم من صعوبة ما يسرده، كان عبد الباسط يبتسم كلما أتى على ذكر التعنيف. يمكن تفسير ذلك بما يُدعى بـ”الابتسامة البائسة”. تبدو رزينة. تحمل حزناً عميقاً. يميل البشر إلى رسمها على وجوههم كطريقة مقبولة اجتماعياً للتعبير عن الحزن والألم. هذا ما توصل إليه علماء النفس عبر مجموعة من التحليلات والمقارنات حددت أنواعاً من الابتسامات غير السعيدة.
مثّل العرض على أمن الدولة في “معسكر السلام” أعلى درجات الخوف في نفس عبد الباسط لأنه بات وحيداً في مواجهة حوالي أربعة أشخاص، واحد يحقق معه ويضربه ثلاثة آخرون، وبعدها يفصل المحتجز عن زملائه، حتى لا يخبرهم عن شيء لو سألوه ماذا حدث معه.
خوفاً من المجهول والتعذيب وأشياء أخرى
شعر عبد الباسط بـ”رعب” الضابط والعساكر. رددوا في جملة واحدة “الواد ده شايف”. هرعوا جميعاً باضطراب إلى تغيير وضعية جلوسه. أداروا وجهه إلى الجهة المقابلة. حينما صار ظهره في مواجهتهم، نزعوا العصابة عن عينيه، وأعادوا ربطها بإحكام، بعدما وضعوا ورقة بيضاء تحتها. أما هو فَزادت ضربات قلبه، متوقعاً “علقة سخنة”، بحسب تعبيره.
حينما أخرجوه من الغرفة، هدأ قليلاً. جلس منتظراً استكمال العرض، لكنهم لم يدعوه ثانية. أودع ومحتجزون سياسيون غرفة فارغة إلا من حصيرة. كان البرد قارصاً، والجميع يرتعد. يتعامل كل محتجز مع خوفه على حدة، دون أن يقاسم غيره فيه.
بحسب عبد الباسط، يعد الشرطيين وجود انتماء سياسي للمقبوض عليه مصدراً للخطر. بالنسبة إليهم، “اللي له في السياسة” لا بد أن يبقى في السجن، ولا سيما إن كان انتماؤه إسلامياً.
حمل فجر اليوم التالي له خوفاً جديداً. نُقل مجدداً إلى قسم شرطة المطرية وأودع في زنزانة مع الجنائيين، للمرة الأولى في حياته. مع رفع العصابة أخيراً عن عينيه، رأى اكتظاظ الزنزانة بمساجين، تخفي الجروح ملامحهم. فتشوه بحثاً عن شيء ذي قيمة. لم يجدوا. خوف ورهبة وازدحام منعه من النوم في الأيام الأولى. لاحقاً، قرر مواجهة انتهاكات المساجين الجنائيين، وضرب الحراس، بما اسماه “ملابطة”، أي مقاومة. في نفس الوقت كان يجنّب نفسه الخطر باتباع التعليمات.
استمرت مدة بقائه في زنزانة قسم المطرية شهرين. كان مقتل كريم حمدي المحامي نتيجة التعذيب في القسم نفسه، خير مثال على أنه لا يكسر لحظات الخوف إلا مزيد من الخوف، ولا سيما أن ذلك تزامن مع مقتل أحد المحتجزين على خلفية قضية عبد الباسط ذاتها، نتيجة الإهمال الطبي، وتعنت ضابط القسم في الاستجابة لشكواه الصحية. كان عبد الباسط الشاهد الوحيد الذي ذكر اسم الضابط في قضية مقتل زميلهم. لاحقه الضابط بالتهديدات. أخافه ذلك في البداية، حتى فقد هذا الخوف تدريجياً فاعليته ضمن باقي المخاوف.
رحل عبد الباسط إلى سجن “أبو زعبل”. أدخل إلى زنزانته محني الرأس، بأمر الحراس. يسيطر عليه الخوف من “التشريفة”، وهي استقبال المسجون بالتنكيل، سواء بتجريده من ملابسه أو ضربه وسبه، إلخ. لم يكن عبد الباسط يعرف مَن يضربه. تعرّف لاحقاً عليهم. قضى في السجن ثلاثة أشهر، قبل أن تبرئه المحكمة من تهم “التظاهر بدون تصريح، والانضمام إلى جماعة محظورة، ومحاولة اقتحام قسم شرطة المطرية”.
وفقاً له، يسعى الشرطيون إلى عدم إظهار خوفهم، تحديداً أثناء ظهور هويتهم. يرتبط التعذيب بوضع بـ”تغمية” المعتقل (حجب بصره). “لو متغمي ممكن يقتلك عادي، بس لو شايفين بعض مش هيضربك، ممكن يشخط أو يحاول يبين إنه قلبه عليك أو مضطر”. يتمادى الشرطيون في التنكيل بالمعتقَل كلما كان خائفاً، يستمدون من خوف الآخر واهتزازه مصدراً لقوتهم، ومن ظلام عينيه مصدراً لأمانهم.
يولد الخوف من رحم مخاوف أخرى. في نهاية المطاف، تتضافر المخاوف معاً لصناعة بيئة خصبة لثقافة تشحن الفضاء العام بكل محتوياته بخوف مطبق، وتصب في اتجاه واحد هو تصنيم السلطة المهيمنة، صانعة الخوف الأكبر. هكذا ينطبق تحليل إبراهيم على الكيفية التي يجمع بها الخوف أناساً يقفون على طرفي النقيض في علاقتهم بالسلطة.