cropped-Logo-1.png

معركة البقاء السوري.. 6 أعوام من الحصار

نستقيظ فجرًا لأننا ننام بعد صلاة العشاء مباشرة في ظل عدم وجود كهرباء أو أي وسيلة ترفيهية، لا تنقطع أصوات القذائف والصواريخ عن آذاننا بين ساعة والآخرى، لا نأمل أن نعيش لساعة واحدة بعد اللحظة التي نحياها، مَن ينجو مِن القذيفة الأولى، يموت من الثانية.

“إما أكلتِ الربطة الآن وإما دهسنا عليها بأقدامنا” بهذه الجملة خيّر عسكري على حدود مدينة المعضمية، التابعة لمحافظة ريف دمشق، رباب عبد الله – اسم مستعار – وهي أم لخمسة أبناء، تمنت الأم لو أن بإمكانها أن تمرر إليهم عدة أرغفة من الخبز وسط حالة الجوع والشح التي يعيشونها، لكن لم يكن بوسعها أن تفعل، فراحت تنهش فى الأرغفة كما ينهش في قلبها الألم والإحساس بالعجز.

يظل “من عايش الحصار ليس كمَن سَمِع عنه” هكذا يعرب المدنيون عن فحوى معاناتهم داخل مناطقهم المحاصرة في بقاع مترامية من الأرض، على اختلاف سياقات كل منها، وخصوصية تجربته. يظل الألم الإنساني هو ما يجمع تلك التجارب، ويقتصر الهدف من هذه القصة على رسم لوحات حية بروايات أناس عايشوا الحصار وخاضوا تجربته في بلدانهم، وهي تجارب لا يهتم الكثيرون بالتركيز عليها، لأنها بعيدة تمامًا عن ما هو سياسي ونفعي، وتفاصيلها لن تؤدي لمكاسب لأي من الأطراف المتقاتلة.

استلهمنا دافع البدء من المدن السورية بعدما تجلَّى مصابها للعيان بحلب، التي عقدت الألسن وأحجم أغلب أهلها عن مشاركتنا برواياتهم عن طريق الإنترنت إلا فيما ندر، لأنه وبحسب صفوان هجار، أحد أعضاء فريق ملهم التطوعي لإسعاف الجرحى والمصابين من حلب، “ليس لدى المدنيين القدرة على التعبير عن عمق الكارثة، لا أحد يعي هول مصابنا، حتى التعاطي مع محاولات صحفية كهذه الآن لن يكون مناسبًا لنقل صورة ذات تفاصيل كافية لتعكس كيف كانت أوضاعهم، يحتاجون إلى الكثير من الوقت حتى يلتئم جرحهم”.

المدينة الموصومة

“نستيقظ فجرًا لأننا ننام بعد صلاة العشاء مباشرة في ظل عدم وجود كهرباء أو أي وسيلة ترفيهية، لا تنقطع أصوات القذائف والصواريخ عن آذاننا بين ساعة والآخرى، لا نلبث أن ننهي إسعاف شهداء منطقة القصف الأول إلى أن نسرع للثانية، لا نأمل أن نعيش لساعة واحدة بعد اللحظة التي نحياها، مَن ينجو مِن القذيفة الأولى، يموت من الثانية”.

هكذا تحكي رباب التي تعمل كموظفة في القطاع الصحي للدولة السورية، وتعيش بالمدينة ذاتها مع زوجها وأبنائها بعد رحيل عائلتها للقاهرة. لم تعد عائلة رباب تتذكر تفاصيل الحياة وسط هذا المقدار الهائل من الموت والدم، لأنهم، على حد قولها، “نسينا الأكل والشرب من كتر دمار المنازل فوق رؤوسنا”.

سبق وألقت قوات الأمن القبض على رباب لنحو يومين “لأننا أبناء المعضمية المغضوب عليها”، بعد أن وجهوا لها تهم إسعاف المصابين بالداخل المحاصر بحكم عملها كحكيمة، “يتهمونني بالإرهاب، في حين أضطر لرشوة عقداء بالجيش النظامي لأتمكن من الخروج من البلدة بموافقة أمنية، وأحمد الله كوني لم ألق مصير جيراني بالطرد من عملهم”.

ألقت قوات النظام القبض على رباب مؤخرًا بينما كانت تقوم بإتمام الإجراءات الرسمية من مؤسسات الدولة لزيارة أهلها الذين وصلوا لمصر منذ حوالي عامين، وعجزت عن اللحاق بهم، وبحسب شقيقتها “بمجرد أن أُدرج اسمها على جهاز الكمبيوتر الخاص في السفارة، رنت أجراس الإنذار، وقدم إليها مجموعة من الظباط، اصطحبوها إلى غرفة التوقيف بتهمة مساعدة قوات المعارضة”، ويؤكد زوجها: “رأيت على وجهها أثناء زيارتي لها أمس، أثر ضرب، وتجمعات دموية نتيجة تعرضها للتعذيب، وأنا الآن أسعى للتوسط إليهم عن طريق قيادات بالقوات المحاصرة”.

في المدينة نفسها صاحبنا دانا العبد (32 سنة) فى جولة من حدود الحصار لأعماق أزقة الحارات بالمدينة ذاتها، وتواصلنا معها عبر شبكة الإنترنت كغيرها من السوريين، بدأت دانا: “على حدود بلدتنا يصر الجنود بجيش بشار على إجبارنا على تقبيل أحذيتهم، وإمعانًا في إذلال الشباب والنساء يسبوننا ويتهموننا بألفاظ خادشة للحياء، حواجز المدن أمكنة للتنكيل اليومي لكل من يدخل أو يخرج فى الأوقات التي يُسمَح فيها بذلك، وتُطَبَّق سياسات التجويع ممزوجة بالإهانات”.

يرتبط الحظ في مدينة دانا باختلاف أسباب الموت، وليس بالموت الذي ينال منهم جميعًا، الحظ بالمدينة المحاصرة يكمن في أن يموت طفل بعد فترة مرض طويلة، يمنحه القَدَر فيها فرصة زيارة المستشفى قبلها، لكنه لا يمنحه الحق في الحياة، كما لم يمنح رفاقه من أبناء الجيران الذين قضى عليهم الجوع، الحظ في المدينة يرتبط بأن يُلقى القبض علي أختها، حيث اعتقلها الجيش السوري بتهمة تقديم العون لجماعات إرهابية، في إشارة للجيش الحر على حد قول دانا، لكنهم أفرجوا عنها بعد ذلك.

تُكمِل دانا: “اشتد الحصار، وأصبح العشب والقليل من الملح هو زاد المحاصرين وما تزودهم به المدينة، يموت الواحد منا تلو الآخر لكثرة الجراثيم، وانتشرت الأوبئة بيننا، وبتنا نستخدم الفحم بعد نفاذ الأدوات الأولية للتدفئة كالنار، وتلخص السبيل الوحيد للنظافة الشخصية وكافة أغراض التنظيف للإنسان والجماد على حد سواء، في ما يعرف بتخزين صابون الزيت”. رحلت دانا العبد عن منزلها بعد قصفه، ووجدت عائلتها صناديق الصابون بين الركام والحجارة، “أخذها خالي وخالتي، ووزعوها على بعضهم، وهكذا فعلت باقي عوائل مدينتنا، إلى أن نَفَذ فبدأوا باستخدام الفحم للأغراض ذاتها”.

تناهض المدينة الحصار  بما يفرضه من جوع وفقر وعوز  بزراعة حدائق الأحياء، واستغلال أي مساحة خالية سواء أسطح المنازل أوالشرفات، لزراعة الخضروات والبقوليات، والمزروعات التي يمكن الاعتماد عليها غذائيًا، وسَبَق حي الوعر الحمصي في الطريقة ذاتها أحياء حلب، للتغلب على الحصار الذي ما زال يعيش فى إطاره الأهالي هناك مذ ما يقرب ثلاثة أعوام.

محاولات من أجل الحياة

ولما كان العوز غير محصورًا في المادة بكل أشكالها، عمد قاطنو إحدى أكثر المدن المحاصرة بؤسًا على استخدام ما تبقى من جدران منازلهم للتعبير عن ما يؤلمهم، ولأن المنازل في حلب باتت أرخص ما لدى الضحية بفعل القصف، لا يمانع أي منهم استخدام أحجارها للكتابة أو غيرها بحسب ما قالته سيدة حلبية.

استطاع الحلبيون بهذه الطريقة نشر أفكارهم ومشاعرهم من خلال مشاركتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي عجت بصور لتدوينات المحاصرين على جدران المباني، تنوعت هذه التدوينات ما بين رسائل العشاق وأمنيات الأمهات، ورغبات الأطفال، وهكذا استطاعت البوح بكل ما تحويه من تناقضات بين قتامة الركام وأمل التطلعات نحو غد يجمعهم بمن يحبون بصرف النظر عن ما سيأتي به الغد إليهم، فالأهم أن يأتي.

اقرأ أيضًا: كيف غيّر فيسبوك حياة السوريين؟

تنتشر في بلدة مضايا حالات الوفاة لسيدات حوامل، تموت الأم مع جنينها خلال عمليات الولادة، داخل النقاط الطبية التي تفتقر إلى المستلزمات والأطباء والمسعفين. يقول أحد سكان في البلدة نفسها: “ماتت ثراء مع جنينها بعد إصابتها بنزيف حاد أثناء الولادة، ليس هناك أدوية ولا حضانات، يُقَدَّر عدد الوفيات من حديثي الولادة في مضايا بطفل يوميًا في ظل رفض القوات المحاصرة للبلدة السماح للنساء والأطفال بالخروج للعلاج، بالإضافة إلى منع المنظمات الدولية من تمرير المساعدات في الآونة الأخيرة”.

يُسمَح لموظفي الدولة فقط بالخروج من منطقة وادي بردى المحاصرة بريف الشام، من دون العودة مرة آخرى، وفي منطقة دير الزور، يستخدم المدنيون حطام بيوت الجيران والأقارب التي التهم القصف جدرانها لإعادة تشغيل المخابز التي أُغلقت بسبب نفاذ الطحين والمحروقات.

يتظاهر الرجال والنساء احتجاجًا على الحصار، أما الأطفال فليس لديهم وسيلة يحتجون بها على الجوع والموت سوى الرسم.

لماذا لم يستسلم السوريون للموت؟

بمجرد ما وقعت عينيه على السطور الأولى من شهادات السوريين المحاصرين بمدن ريف دمشق، سارع باحث الأنثربولوجي البولندي صامولي شيلكه بالقول: “لديّ  ملاحظة أولى هنا من فضلك، علينا ملاحظة طبيعة الحصار في هذه المناطق، إنه حصار غير محكم وغير كامل”.

ويضيف شيلكه “من بين هذه الروايات والحكايات التي سمعتها من جيراني السوريين فى برلين، وأصدقائي الذين فروا من حلب، وعوائلهم الذين انتقلوا منها إلى إدلب، يمكننا أن نتعرف على الحياة داخل الحصار، التي يكون العامل الأساسي فيها هو محاولة استمرار حياة يومية فيها شيء من حركة، وأوقات فراغ ليلية، ومواصلات، وكل ما يتعلق بخدمات البنية التحتية، تلك الأشياء التي يصعب الحصول عليها هناك”.

بعد مقارنة بين حصار المناطق السورية وحصار لينينجراد وسراييفو، المدينتان اللتان عانتا من جوع شديد، الأولى في الحرب العالمية الثانية، والثانية في حرب البوسنة، يستخلص شيلكه أن من أهم الأشياء التي يسعى لها الإنسان في أوقات كهذه، هي محاولاته الدائمة للبقاء على درجة من الحياة العادية داخل مدينته المحاصرة. إلا أن شيلكه لا ينكر رغبة المدنيين في الرحيل إذا سنحت لهم الفرصة، لأنه في رأيه يكون لدى الإنسان دافعين في حالات الحصار؛ الأول دافع المقاومة للاحتفاظ بالمكان، ولا سيما فى حال كان الحصار مصحوبًا بغارات جوية وقنابل وقصف، والآخر دافع احتياجه للخدمات والأكل والمواصلات، ويغلب الأخير في حالات معينة من الحصار كما وقع فى حصار سراييفو، أثناء حرب البوسنة.  يفسر شيلكه قدرة بعض المناطق السورية المحاصرة على الحصول على الطعام والمواصلات، والأدوية مرتفعة الثمن لوقت طويل، رغم سياسة التجويع وكسر المقاومة التي يعتمدها النظام السوري لكسر ومنع الحياة اليومية، بطرق ليست بالمباشرة، في أوقات لا يملك فيها ما يكفيه من قوة عسكرية لاقتحام المدينة، التي يلجأ لتجويعها.

ورغم التجويع والإهانات الناتجة عن الحصار، هناك ازدواجية في الموقف على حدود تلك المناطق، بحيث يُسمّح بوجود معابر في بعض جبهات الحرب، مما يجعل حصاره المحكم، ذا ثغرات، تحتاج إليها المقاومة لتتمكن من إطعام الأهالي في منطقة لا تعتمد على نفسها فى الطعام.

تختلف تجارب الإنسان في أوقات شبيهة، تبعًا لطبيعة الحصار ذاته، فإذا استرجعنا ثانية حصار لينينجراد، لن نجد مثل هذه الثغرات، أو أي طرق للعبور، اللهم إلا طريق على بحيرة محاذية آنذاك، إلا أنه لم يكن ليُسمَح بوجود قدرة على تمرير أي شيء. صحيح  أن الحصار في مناطق ريف دمشق مغلق، إلا أن وضعية الحصار دفعت بوجود أنماط من التفكير لدى الإنسان المحاصر في كيفية استغلاله والتحرك للحصول على طعام وعلاج وغيره، مُرَكِّزًا كل طاقته في الحصول على الكهرباء والأدوية والمؤن.

 

المصدر: موقع المنصة.

قسم: مجتمع.

تاريخ النشر: 22/3/2017

رابط القصة: https://almanassa.com/stories/1291

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *