cropped-Logo-1.png

كيف دافعت النقابات الطبية في مصر عن حقوق منتسبيها في ظل كورونا؟

في الرابع عشر من فبراير الماضي، أعلنت مصر اكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد. في منصف مارس، تجاوز عدد الإصابات العشرات، وبدأ تسجيلها بالمئات. وفي ابريل 2020، تجاوز عدد المصابين بالفيروس من الفرق الطبية 70 مصابا. حتى 29 يوليو وصل عدد الأطباء المصابين 2520، وعدد الوفيات 152 حالة حتى 22 أغسطس، حسب بيانات نقابة الأطباء.

ويرجع زيادة المصابين بفيروس كورونا بين الفرق الطبية إلى تخبط القرارات الحكومية وسوء تنفيذها بالإضافة إلى نقص مستلزمات الحماية. وهي الأمور التي أدت إلى تحرك نقابات العاملين بالمجال الطبي وعلى رأسها نقابة الأطباء. ويتتبع المقال هذا الحراك والتجاذب الحاصل بين النقابات والحكومة.

سوء التنفيذ مقابل القرارات الجيدة

قررت الحكومة تخفيض العمالة بالمؤسسات الحكومية ضمن خطتها لمواجهة الفيروس. استثنى القرار الموظفين بالمرافق الحيوية، وفي مقدمتها مؤسسات القطاع الصحي. بعد عشرة أيام، تمّ إيقاف العمل داخل العيادات الخارجية بالمستشفيات العامة والمركزية، على أن يتحول تقديم الخدمة إلى الوحدات والمراكز الصحية، التي تعهدت الوزارة برفع كفاءتها، وألزمت مديريات الصحة بتوفير جميع مستلزمات التشغيل ومكافحة العدوى للعيادات.

على مستوى التطبيق، لم تضمن قرارات الحكومة، توزيعا عادلا للعمل بين أعضاء الفرق الطبية، لأن الوحدات والمراكز الصحية طبقت قرار تخفيض العمالة، بالإضافة إلى بعض المستشفيات التي لا تتولى حالات كورونا، في الفترة ما بين منتصف مارس وحتى أوائل يوليو، وفقا لما أكده لنا مصدران من الفرق الطبية بالمؤسسات الصحية المذكورة. في الوقت الذي عانى فيه العاملون بالمستشفيات المخصصة لعلاج كورونا من ضغط وطول ساعات العمل لا سيما مع ارتفاع منحنى الإصابة خلال الفترة نفسها.

من جانبها، لم تلتزم الوزارة برفع كفاءة الوحدات والمراكز الصحية وتوفير كافة مستلزمات التشغيل. كما برزت مشكلة نقص المستلزمات الطبية وإجراءات الحماية، والتي أدت إلى إصابة عدد كبير من الفرق الطبية كما أشرنا في المقدمة.

نقابة الأطباء تطالب بحماية العاملين بالقطاع الطبي

في أبريل الماضي، رفعت نقابة الأطباء أربعة مطالب في إثر تزايد الإصابات بين أعضاء الفرق الطبية. شملت هذه المطالب: 1) تخفيف الزحام في المستشفيات بإيقاف العمل بالحالات والتدخلات الطبية غير العاجلة، 2) وضع بروتوكول لفحص وإجراء التحاليل لأعضاء الفريق الطبي الذين يتعاملون مع الحالات المشتبه بإصابتها، دون إنتظار ظهور أعراض مرضية عليهم، 3) تخصيص مستشفى بكل محافظة أو قسم بكل مستشفى، لعزل وفحص المشتبه بإصابته منهم لحين ظهور نتائج الفحوص والتحاليل، 4) توفير مستلزمات الوقاية، بجميع المنشآت الطبية على مستوى الجمهورية، ومتابعة ذلك حتى لا يقوم بعض المديرين بمنعها بحجة عدم استهلاكها.

ونشير إلى أن نقابة الأطباء استخدمت تعبير “الفرق الطبية” دون حصر على الأطباء وحدهم، وكأنها ترى نفسها مظلة لجميع العاملين، تنوب عنهم وتضع نفسها في مقدمة التنظيمات المؤدية للدور النقابي. كما لم تحصر النقابة اهتمامها على مخاطبة صناع القرار وحدهم، وإنما انتبهت إلى الالتزام العملي بتوفير الأدوات في الدوائر الأصغر، حيث مدراء المستشفيات، الذين يخشون استهلاك المخزون المتوافر لديهم. كما سعت إلى توعية العاملين بحقوقهم الأساسية ومدهم بتوصيات لإدارة المواجهة بينهم وبين هؤلاء المدراء، حتى لو استلزم الأمر الإمتناع عن العمل لحين توفير هذه الأدوات.

بعد أسبوع من تقديم النقابة لهذه المطالب، توفي 3 أطباء بفيروس كورونا، ووصل عدد الإصابات إلى 43 طبيبا. فأصدرت النقابة بيانا دعت فيه إلى الإعلان عن الوضع الصحي للأطقم الطبية، وموافاة النقابة ببيانات الأطباء المصابين لتقوم بدورها تجاههم. بدأ من حينها الدعوة إلى ضم الأطباء والعاملين بالقطاع الطبي إلى القانون 16 لسنة 2018 الخاص بصندوق تكريم الشهداء[1]، وشددت على مطالبها السابقة.

في 13 مايو الماضي أصدرت وزارة الصحة بروتوكول مكافحة العدوى. حملت فيه معظم المصابين من الفرق الطبية مسؤولية العدوى بالقول “أكثر حالات الإصابة بين طاقم العمل بالمستشفيات سببه المباشر المخالطة المجتمعية بين الطاقم”. منعت أخذ مسحات من المخالطين للمصابين من الفرق الطبية، على أن يقيموا أنفسهم ذاتيا، كما منعت عزلهم وفرضت عليهم الإستمرار في العمل. وصل بأواخر الشهر نفسه عدد الوفيات بين الأطباء إلى 19 والإصابات إلى 350.

في مواجهة وزارة الصحة

 دخلت النقابة في مواجهة مع وزارة الصحة. فقد تقاعست الوزارة عن حماية الأطباء، بحسب وصف بيان النقابة، وحملت الوزارة “المسؤولية الكاملة لازدياد حالات الإصابة والوفيات بين الأطباء نتيجة إهمالها في حمايتهم”. وأشار البيان إلى اتخاذ النقابة لجميع الإجراءات القانونية والنقابية لحماية أرواحهم، وملاحقة المتورطين عن هذا التقصير، الذي يصل لدرجة “جريمة القتل بالترك”. طرح بعض أعضاء النقابة الإمتناع عن العمل في حال عدم توفير مستلزمات الحماية، كتصور للتعامل مع أزمة نقص الموارد الطبية، وهو الأمر الذي أعقبه هجوم إعلامي على هؤلاء الأعضاء، والتقدم بشكوى، تتهمهم بتحريض الأطباء على الانقسام والإضراب. من ناحيتها واصلت وزارة الصحة سياستها في إجبار الفرق الطبية على مواصلة عملهم، دون ضمانات لتوفير المستلزمات، مستخدمة أساليب التهديدات الأمنية والإدارية[2].

نتيجة للتصعيد في خطاب النقابة، وتوتر العلاقة مع وزارة الصحة، دعت رئاسة الوزراء نقيب الأطباء إلى لقاء عاجل لعرض المشاكل التي يعانيها الأطباء في أواخر مايو. وبالرغم من كونه نقاشا مناسبا وضروريا لتقريب وجهات النظر، إلا أن مثل هذه اللقاءات لم توظف إلا كمسكن لرأب الصدع، ولم تسفر عن حلول جذرية للموقف محل النقاش، ما يفقد الطريقة نفسها فعاليتها ومصداقيتها لدى العاملين. يبرهن على ذلك، تجدد الغضب عقب تصريح لرئيس الوزراء حمّل فيه بعض الأطباء المسؤولية عن زيادة أعداد المصابين بالفيروس، لتطالبه النقابة بالاعتذار[3].

منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، هدأت الأوضاع بين النقابة والوزارة. تكتفي النقابة بتوثيق حالات الوفاة من أعضائها، والتفاعل مع القوانين والقرارات ذات الصلة بأفراد الفرق الطبية بالتوضيح والشرح على صفحتها على الفيسبوك، كما حدث في حالتي قانون بدل المهن الطبية، وتعديلات قانون العقوبات لردع المعتدين على الموظفين والعاملين بالمنشآت الصحية، وتتواصل مع الوزارة بخطابات رسمية، إن لزم الأمر، وتشاركها عبر الصفحة نفسها.

الفرق الطبية وحراك النقابة

بين تصعيد النقابة، وتجاهل الوزارة، يقع أفراد الفرق الطبية تحت ضغوط عدة، جزء منها ناتج عن سلطة الوزارة وخطورة الظرف الصحي الحالي، والجزء الآخر هو ضغط الاحتياج لعوامل حماية ووقاية، تقيهم مصير زملائهم المصابين والمتوفين. لذا قرر غالبيتهم تمويل نقص هذه المستلزمات ذاتيا، ولا سيما من يصطفون على خط المواجهة الأول للفيروس، دون “استهلاك أنفسهم في مطالبات غير مجدية”، بحسب وصف عضو نقابة الأطباء أحمد السيد، الطبيب بمستشفى عزل المنيرة.

 تعبير السيد لا ينم عن رفض لحراك النقابة ومطالبها، لكنه يعكس يأسا حيال تلقي استجابة رسمية إيجابية في الوقت الراهن، حيث لا مجال لترك العمل أو التوقف عنه لحين توفير المستلزمات، بحسبه. أما الطبيب بمستشفى إسنا حسام فتحي فيمثل تيارا آخر يرى أن الوزارة تفعل كل ما بوسعها، وأن ما يحدث الآن نتيجة طبيعية للوباء وليس لتقاعس الوزارة، التي حرص السيد في أكثر من موضع بحديثه معنا، على تبيض صفحتها بالقول إن الجدل المثار سببه سوء فهم لقرارات الوزارة وتجاهل لطبيعة الأوبئة وما يصاحبها من أزمات.

هناك تيار ثالث، يقف في منتصف الطريق بين موقف السيد وفتحي، يمثله الممرض بمستشفى المنصورة العسكري محمد وزملائه. لا يستمدون من حراك النقابة نهجا للتعامل الشخصي مع مشكلات عملهم اليومي، يتبعون ما تمليه عليهم إدارتهم من تعليمات، ويتعاملون في إطار المتاح، خوفا من أن يترتب على الشكوى أو إبداء الرفض إجراءات عقابية كالتحقيق الإداري.

لا يمكن فصل مواقف الأطباء من الحراك النقابي، عن سياق عام لا يتسع إلى تبني مواقف صدامية، غير مأمونة العواقب. تستبعد المصادر التي تحدثت لنا، لجوء الأطباء إلى التصعيد “مفيش دكتور هيعمل إضراب، في الأخر هتيجي عليه هو اللي هيضر” بحسب طبيب بإحدى الوحدات الصحية في محافظة أسوان. تعلم الأطباء الدرس من محطات سابقة بالحراك، كأزمة التكليفات، حينما صعدت فيها النقابة، فألقي القبض على بعض أعضائها. كما يعزز الرد على مطالبهم بالهجوم والتخوين من جنوحهم إلى التسليم بالمفروض عليهم من أعلى.

وعليه انقسم الأطباء ما بين فئة من الشباب المؤيدين لمواقف أشخاص بالنقابة، لكنهم لا يأخذون أي تحركات فعلية استنادا على ذلك، وفئة أخرى لا يكترثون على الإطلاق. يفسر هاني ذلك بفقد الثقة في النقابة كتنظيم، بالإضافة إلى تضارب المصالح فيتساءل “إزاي ممكن مدير يوقع جزاء على طبيب في المستشفى الصبح، وبعد الظهر يدافع عنه في النقابة؟”.

هكذا تتحكم الطريقة المبني عليها التنظيم النقابي، إذ يجمع ممثلو الأطباء في النقابة بين وظائفهم الإدارية التي يترأسون بحكمها مجموعات من الفرق الطبية الأصغر عمريا ووظيفيا وبين مهام تمثيلهم لهذه المجموعات والتحدث نيابة عنهم.

ألقى الإنقسام والمناخ العام بظلاله على رأي العاملين بالقطاع في قرارات الوزارة. حينما أعادت الوزارة فتح العيادات الخارجية بالمستشفيات في منتصف يونيو، وفُعل القرار، وعادت الأطقم بكامل قواتها للعمل في الوحدات والمراكز في يوليو، وسط صمت النقابة، وعدم نقد القرار كالمعتاد.

يعيش بعض العاملين حالة ترقب خاصة مع استمرار إصابة ووفاة عدد من الفرق الطبية نتيجة الإصابة بالفيروس، فيما يمثل الحكي ومشاركة المخاوف والشكاوى نفسها لمعظمهم طريقة للتنفيس، والبعض الآخر يبادل السلطات تهربها من التزامات حماية العاملين بالمستشفيات بالتخفي عن أعين المدراء خوفا من استدعائه للمشاركة في مستشفيات العزل مثل أحد المصادر الذي تحدثنا إليه.

ماذا عن باقي نقابات الفرق الطبية؟

تقييم استجابات العاملين من غير الأطباء، يلزمه معرفة بمواقف نقابتهم، إذ أن الحِراك بين وزارة الصحة ونقابة الأطباء لم ينسحب على جميع نقابات العاملين بالقطاع الصحي من غير الأطباء. نقابة التمريض على سبيل المثال اكتفت بالإشادة بجهود أعضائها، ونعي الوفيات منهم مستخدمة لفظ “الشهيد/ة”، دون أن توثق عدد أو ترتيب المتوفين من العاملين فيها جراء الإصابة بالفيروس، بعكس نقابة الأطباء التي رافق نعيها ترتيب الطبيب في قائمة المتوفين بالفيروس، وكذلك تفعل نقابة المسعفين.

في حين لم توضح نقابة العلوم الصحية، التابع لها العاملون فنيو الأشعة، والتحاليل الطبية سبب وفاة المنعيين، وهل للفيروس دور في ذلك، حتى لو كانت مواقع عملهم تنطوي على احتمالية للإصابة، كالعاملين بمستشفيات الحميات.

في الوقت الذي تتبنى نقابة الأطباء خطابا نقديا حيال إجراءات وخطوات الوزارة، ترفض وتقبل وتطالب بالتعديل، لم يعدو رد فعل غيرها عن شكر المسؤولين غالبا، وتأييد نقابة الأطباء أحيانا في بعض المطالب، كما حدث مع بروتوكول العدوى.

المقارنة بين الاستجابات المتباينة للنقابات ومواقف العاملين من حراكها، تخبرنا أن المحاولات التنظيمية للتفاوض على حقوق العاملين لم تستطع انتزاع بعضا منها، ليس لافتقار المحاولات (وتحديدا في حالة الأطباء) إلى المصداقية ولكن لافتقارها إلى آليات تجمع جهود النقابات كلها، وصلاحيات تخول لها أبعد من إصدار بيانات.

في المقابل العاملون أنفسهم لم يعضدوا بردود أفعالهم خطابات النقابة، رغم معاناتهم، التي تصبح بتراكم المشاكل بين النقابة والوزارة سببا ونتيجة للحراك ذاته، لأن المعطيات لا تتغير، وموازين القوى تميل نحو من يملك السلطة، أي وزارة الصحة. فلا يبقى لبعض العاملين من الأطباء سوى إحساس الاعتزاز من بيانات ومقاطع فيديو تصورهم كفاعلين ومتحدثين باسم الفرق الطبية، لكنه إحساس مجرد من أي ترجمة عملية.

كلما قل تدرج العاملين بالقطاع الصحي وظيفيا، زاد تهميشهم ومستوى الافتقار إلى حقوقهم وقلت المساواة فيما بينهم. يبرز قانون بدل المهن الطبية كدليل على ذلك حيث استثنى القانون المسعفين من الفئات المستهدفة[4]، بالرغم من وجودهم على خط المواجهة الأمامي للمرض، بالإضافة إلى وضعهم المتدني اقتصاديا واجتماعيا. في 2 يوليو الماضي، صرح وائل سرحان نقيب المسعفين عن تخطي عدد إصابات الطاقم الطبي من الإسعاف 250 إصابة.

يتبع عمال النظافة بالمستشفيات النقابة العامة للعاملين بالنظافة في كافة القطاعات. بالشهور الأولى طالبت النقابة بتوفير الكمامات لعمال النظافة بوجه عام وليس فقط المستشفيات. في أواخر أبريل نشرت شُكر للحكومة على توفيرها. إلا أن المتابعة الواقعية لتحقق إجراءات مكافحة العدوى والحماية التي تشمل توفير مستلزمات بمواصفات معينة وتبديلها كل فترة محددة لا تتفق مع خطاب النقابة. كما لم تلق المطالبة بصرف بدلات لعمال النظافة بالمستشفيات تحديدا كباقي العاملين من الأطباء والممرضين أي صدى.

خاتمة

النظر إلى مشاكل العاملين والجدل المثار باستمرار يفقد دقته إذا عزل عن الوضع الصحي للبلاد، لأن المشكلة تكمن في خلل المنظومة، وافتقادها إلى الحوكمة الرشيدة. وبالتالي، يبرز ضرورة إعادة هيكلة منظومة الصحة في مصر. فلا يفترض أن يعتمد النظام الصحي على قطبي النقابة والوزارة، وإنما كيانات جديدة تمثل مصالح فئات العاملين الصحيين بكل اختلافاتهم وحقوقيين، وهيئات للتمويل والرقابة، ومجلس أعلى للسياسات الاستراتيجية وأخرى لأخلاقيات المهنة، وتصبح الوزارة مجرد منظم، لا تدخل بتمويل الخدمة ولا تقديمها ولا الرقابة عليها.

وإذا كان سوء توزيع الإمكانيات، والخلل التنفيذي الذي يشوب حتى القرارات الجيدة، ونقص الموارد وصور اللامساواة بين العاملين وتراكم الخلافات والإهمال هي أنماط لتردي المنظومة الصحية، فإن حراك النقابات يمكن تفسيره في سياق تردي المنظومة أيضا. فلا تعفي مسؤولية الدولة عن الإصلاح، النقابات من تحمل جزءا من المسؤولية، نتيجة تشتت طاقتها، وإهمال الحديث عن إعادة الهيكلة.

المصدر: مؤسسة المفكرة القانونية.

قسم: صحة
تاريخ النشر: 14/9/2020
رابط الموضوع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *