cropped-Logo-1.png

الناجيات من الانتحار.. الموت يهدي حياة أخرى

“أنا حاولت انتحر في حياتي كلها 15 مرة، مفيش محاولة كان وراها شيء أكبر من إني شايفة الحياة سعادة وشغف وبس، والانتحار هو الحل لو اكتئبت”.

ترى ملاذ (اسم مستعار) والتي شخص أطباء إصابتها باضطراب ثنائي القطب، أنها بمحاولات انتحارها المتعددة، آلمت أباها وأمها ألمًا لا يستحقانه.

اليوم، توجت ملاذ (31 سنة) حياتها أخيرًا بتكوين أسرة صغيرة مع شخص تقول إنه يقدر حبها للحرية، وإنهما يعرفان سويًا أن يكونا شريكين، يتشاوران في كل القرارات، ويتبادلان الأسرار والحكي حتى وقت خلافهما؛ توضح “لما بزعل منه، بشتكي له هو”. بدا من اللحظة الأولى أنه ثمة زوجًا محبًا دفعها لتجاوز الأمر.

التغافل بالنسبة لملاذ هو مفتاح نجاحها في زواجها، الذي يسمح بترك مساحة لكل طرف، والتناسي أحيانًا، وألا يقف طرف بالمرصاد للآخر، وهذا ما يساعدهما على خلق حالة من الود والترابط التي تنعكس ليس فقط على علاقتها بزوجها، ولكن على نمط تربية ابنهما، الذي يبدو مختلفًا جدًا بحبه لكل ما هو معنوي أكثر من أي شيء مادي.

“عنده سنتين، وبيفرح لما يشوف القمر كامل، أكتر من إنه يلعب بأدواته وألعابه”، ترجع هذا التميز في طفلها إلى ما تبنته من قيم في تربيته، التي تفرغت لتقوم بها ليس بضغط من أحد، وإنما رغبة في أن تشاركه كل مراحل عمره، قبل أن يكبر وتصبح لديه حياته الخاصة وأحلامه المستقلة.

حب الحياة هو العنوان الرئيسي لقصة “ملاذ”، أصبح هدفها الأسمى هو الحرص على الاستمتاع بكل لحظاتها مهما كانت الظروف، في علاقتها بطفلها، بمنزلها، وبالدنيا بأسرها، تعلمت أن تعاتب وتصبر، تعبر وتمرر، طورت من الصورة التي بدت عليها للآخرين كفتاة أنانية أو زوجة عنيدة.

تعتقد “ملاذ” اليوم أن أسباب فشل أي علاقة سابقة مرت بها، بما في ذلك تجربة زواجها الأول كانت محاولات الطرف الآخر تغييرها، وهو الأمر الذي تجاوزته اليوم عندما أحسنت اختيار زوج متفهم بعد أن تجاوز عمرها 31 سنة، أدركت خلالهم أن الحياة أكبر من أي شخص.

كل طبيب نفسي زارته ملاذ أو حملها والداها على زيارته، شخّص إصابتها باضطراب ثنائي القطب، وكل مرة كانت ترفض أن تتناول أي عقاقير طبية من التي وصفت لها.

بين خوف ورعب عاش والديها معها أوقاتًا مليئة بالعذاب، مع ابنة ترى أنها لم تكن تستحق كل هذا الدعم والحب الذي أمداها به لفترات طويلة “وبعد كل دا انتحر واسبب لهم كل الوجع دا؟ أنا ساعات ببعتلهم جوابات اعتذار، بعد ما بقيت أم وفهمت”.

عبور آمن

وفقًا لمدرسة الصحة العقلية في نيوزيلاندا، فإن التفكير في الانتحار مرة أخرى لا يعني بالضرورة أن الناجي فشل في تجاوز تجربته، بل إن الانتحار يمكن أن يكون نقطة تحول في حياة هذا الشخص، إذا ما نظر إلى تجربته الذاتية كجزء من الماضي، وطريق لمستقبل حافل بمحطات الصعود والهبوط.

القراءة والسينما والموسيقى أنشطة تأتي في قائمة ملاذ الخاصة بعيدًا عن دوائر الدعم والعلاقات الإنسانية. فيما مضى كانت تعمل مصورة لكنها تحب الآن أنها فقط أم وزوجة. هذا كل ما ترغب به، وترى أنها ولدت من جديد بعد عبورها أي تجارب سيئة قادتها لقرار يستحيل أن ترى فيه خلاصًا الآن لأي مشكلة “أي حد يعرفني، بيستغرب إزاي أنا اتغيرت 180 درجة كدا”.

في حين تقدر إحصاءات منظمة الصحة العالمية معدل  الانتحار بنحو 800 ألف شخص وفقا لآخر تحديث أجرته في أغسطس/ آب من العام الماضي ، وتسجل إحصائية للمركز القومي للسموم 2700 فتاة أقدمن على الانتحار، إلا أنه من أصل عشر أشخاص نجوا من الانتحار، هناك تسعة لا يموتون جراء محاولة ثانية، وفقًا لمدرسة الصحة العامة التابعة لجامعة هارفارد.

حياة مستقرة

يغطي شعرها الأسود كتفيها، تبدو طويلة القامة في الصورة التي تظهر مع كل رسالة تصلني منها طوال دردشة استغرقت نحو ثلاثة أيام.

تبدو حنين (اسم مستعار) ابنة الـ 28 سنة، أكثر تحفظًا مما قد يوحي به طول الأحاديث بيننا، بدت متعاونة جدًا في تواصلها رغم أن إحدى أكثر صفاتها وضوحًا لمن يتحدث إليها هو الكتمان.

قبل 11 سنة كانت محاولة حنين إنهاء حياتها نتيجة صفعة من والدها، في ذلك الوقت كانت حنين ترى أن تعرضها للإهانة من أبيها سبب كافٍ لتنهي حياتها.

“يومها كان جوايا تضارب بين صوت بيغلطني لأني كبرت الموضوع ووصلتله للموت، وبين صوت حاسس بالإهانة”، تشرح حنين شعورها ذاك اليوم.

حنين تعمل الآن سكرتيرة في شركة استشارات هندسية، وهو العمل الذي يأخذ أهمية كبيرة في حياتها، نظرًا لإحساس النجاح الذي يمنحها إياه، بالإضافة إلى أنه يكسبها قدرًا من الاستقلال وتحمل المسؤولية، من دون مساعدات خارجية.

تألف حنين التعاملات مع زملائها في العمل وترتاح إليهم، لكن على الجانب الآخر تزعجها فكرة أن ينسب أحد عملها إليه أو يعيب فيه، هي تؤكد الآن أنها باتت قادرة على التعامل مع مشاكله، بقدر من التعقل والحزم، تحجم عن الكلام أحيًانا، وتتقدم لأخذ مواقف جادة أحيان أخرى، وهذا من أهم المكتسبات التي خرجت بها من تجربة فتاة حاولت إنهاء حياتها ذات يوم، أثناء تعرضها لصفعة من والدها في شجار عائلي.

اليوم تنظر الفتاة نفسها إلى الطريق الذي سلكته نحو شخصية جديدة تختلف عن ما كانت عليه من خلال تعزيز إحساسها بالقدرة على إدارة شؤونها دون التعلق بأحدهم لحل مشكلاتها، تخلصت من اعتماديتها، لكنها فطنت إلى أهمية التوازن بين الاعتماد على النفس وبين طلب المساعدة وقت الحاجة، على حد تعبيرها.

ساعدتها التجربة على تجاوز الانفعال المطلق مع المشكلة دونما تفكير “بقيت أفكر بعقلي مش قلبي زي الأول”، باتت نظرتها للخلاص لا تقتصر على الموت، لأنها الآن ترى أنه دائما هناك حياة تنتظرها بعد نهاية المواقف الصعبة، لا نهايتها هي.

 

“مرة فضلت أسكت اسكت، لغاية ما عيطت لأنهم حطولي معلقة سكر في الشاي وأنا مبحبش السكر، مع إنه الموقف مكنش يتساهل”، تحكي حنين عن واحدة من أكبر مشكلاتها وهي السكوت، الذي لا يعكس رضا بداخلها في كثير من المواقف، لم يتغير ذلك بشكل جذري إلا أنها دائما ما تبحث عن فرص للتعبير، ومشاركة ما تشعر به، وطلب المساعدة من أصدقائها إن لزم الأمر، لأنها أدركت خطورة الكتمان وما قد يقودها إليه من أفكار وقرارات خاطئة كما سبق، أو ما يتبعه من مرض كما عرضها ذات مرة لشلل جزئي.

حياة ثانية

تتدافع أسئلة كثيرة إلى عقل الناجي، حول الطريقة التي يضمن بها تجاوز التجربة، وفقًا لمؤسسة الصحة العقلية نفسها، والتي تشير إلى عدم وجود طريقة صحيحة أو خاطئة يمكن النظر من خلالها إلى أفكارهم ومشاعرهم، حتى وإن بدت متناقضة مع بعضها البعض في كثير من الأحيان، مؤكدة “من المحتمل أن يجهل بعض الناجين الأسباب التي دفعتهم للانتحار، لكنها تتكشف من خلال العمل على فهم دواخلهم”، التي تعد خطوة مهمة لتجاوز التجربة.

على الجانب الآخر تصف حنين العلاقات الأسرية في منزلها الذي تقضي به نصف يومها الآخر، بأنها مريحة، نظرًا لتفهم أفرادها، بالرغم من إحساسها في بعض الأوقات بالتمييز السلبي لصالح أخويها الوحيدين، لكنها راضية عن مساحة القبول والاحتواء من والديها، وعلى رأسهم الأب، الذي ساعد التقارب بين شخصيتهما مع مرور الزمن على تناسي الخلافات القديمة، إلى حد أنها باتت تعتبر الصفعة التي تلقتها قبل 11 عامًا وسيلة عقابية لا إجراء مهين.

كما باتت حنين اليوم تقدر أن أهلها توقفوا عن الضغط عليها من أجل الزواج وهو الأمر الذي يزعجها “بحب إنهم عارفين إني عشان مش مرتبطة، بكون محتجاهم، وإنه نجاحي مش مرتبط بالجواز، وبيفتخروا بيا قدام قرايبي”.

تضيف حنين “طبعًا التجربة غيرتني”، وتحكي كيف تحولت من فتاة ترى في الانتحار خلاصًا من المعاناة، إلى فتاة أخرى يوقفها النضج ورصيد الخبرات عن اتخاذ مثل هذا القرار.

بالرغم من الاختلافات في تفاصيل قصة كل من “حنين”، و”ملاذ” إلا أن الفتاتين تتفقان في شعور الأسى لأجل السيدات، اللائي يفقدن حياتهم بالانتحار، وتؤمنان بأن عناية الله بالمنتحرات مختلفة عن إدراك البشر، وفي حين توجه حنين من خلال تجربتها رسالة إلى الناجيات مفادها “متستنيش حاجة من حد، اعتمدي على نفسك، واسعديها”، بينما تعبر ملاذ عن شعورها بالسعادة لأن الناجيات مُنحن فرصة جديدة لاختبار الحياة مرة آخر، مخاطبة كل امرأة ناجية “هاتي كائن يحسسك إنه وجود ضروري في حياته، حتى كلب”، وتختم حديثها قائلًة “السلام هنلاقيه في حياتنا مهما اتأخر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *