cropped-Logo-1.png

عفة مشوهة وأعضاء مشوهة

حكايات الختان في الريف المصري

كان يوم أربعاء تقليدي. اختارت الوسيطة بيني وبين عدة سيدات في إحدى قرى مدينة ميت غمر، التابعة لمحافظة الدقهلية، هذا التوقيت لكونه الأنسب لهن. الوصول إلى سيدات مستعدات لمشاركة تجاربهن مع الختان أمر صعب جدًا، خاصة في المجتمعات الريفية. انتظرت كثيرًا هذا اللقاء، انتظرته حتى قبل أن أصل إلى الوسيطة التي سترتبه لي، انتظرته كلما كنت أخوض في مناقشة حول الختان أو أقرأ موضوعًا عنه فيطغى الرأي القائل بأن الختان ممارسة مرتبطة بالدين الإسلام، الأمر الذي يضعه بجانب ممارسات دينية أخرى ويصعب دحضه ومقاومته وتجريمه.

استفزازي هذا دفعني إلى الريف، بعيدًا عن مركزية العاصمة التي تقل حالات الختان فيها شيئًا فشيئًا، أو يتم التكتم عليها أكثر من منظور المحافظة وعلامات التمدن. اخترت أن أذهب إلى قرى الدلتا وتحديدًا تلك التي تخلط بين المسلمين والمسيحين، وتجمعهم كلهم في ممارسة ختان الفتيات على حد سواء، فعلى الرغم من الإشارة لوجود الختان في المجتمعين المسلم والمسيحي، إلا أننا لا نسمع الكثير من القصص التي تضعنا أمام هذه الحقيقة دون مجال للإنكار، وتتيح لنا فهم واقع الختان على لسان من تعرّضن له ومن تُعرّضن بناتهن له حتى هذه اللحظة. استغرق البحث عن هذه القصص حوالي الشهرين، جمعت قصة تلو الآخرى، حتى أتأكد من أن ثمة عادة ما تزال تلاحق غالبية النساء في مثل هذه المنطقة، مسلماتٍ ومسيحيات.

تُعرف منظمة الصحة العالمية الختان على أنه “تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية بما يشمل عليه من الممارسات التي تنطوي على إزالة الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام، أو إلحاق إصابات أخرى بتلك الأعضاء بدواع لا تستهدف العلاج”. وعند البحث عن نسب الختان حسب الديانة، لا نجد أرقامًا محددةً لرصدها والوقوف على كونها عادة نابعة من دين معين أو مرتبطة بها أو أنها باختصار ممارسة راسخة في المجتمع المصري بغض النظر عن الديانة، فبالرغم من أن الختان فعلٌ مجرم رسميًا في مصر، بموجب قانون صدر عام 2008، إلا أنها صُنفت باعتبارها البلد الأولى عالميًا لممارسة ختان الإناث، وفقًا لإحصائية منظمة الصحة العالمية نفسها عام 2015.

توقّفنا عند بيت اسمنتي من ثلاثة طوابق. بالكاد تلمّسنا خطواتنا صعودًا حيث منزل “تريزا” الذي تتصدره صورة السيد المسيح. بالداخل، كان ثمة ثلاث سيدات. بعد الاستقبال وتقديم واجب الضيافة، تداولنا الحديث دون توثيق ملحوظ، حيث بدا أن تسجيل اللقاء أو تدوين الملاحظات قد يثير الريبة أو الانزعاج لديهن. اكتفيتُ بتوجيه الأسئلة والإنصات لهن. وهن شعرن بالارتياح أكثر لكونها جلسة نسائية خالصة، مع عِلمهن المسبق بالغرض الصحفي منها.

بنبرة حاسمة بدأت تريزا بتوضيح أنهن جميعًا تعرضن للختان: “جميعًا، أنا، وزوجات أولادي، وجارتنا هذه”.

“كلام ستات”

جلست معهن؛ الأولى بولين، عشرينية رزقت منذ أشهر بطفلها الأول، والثانية عزيزة، أربعينية ممتلئة ترتدي جلبابًا ريفيًا، والثالثة تريزا، التي ترددت في البوح بعمرها قبل أن تفصح مخمسة بكف اليد وهي تزم شفتيها “خمسين سنة”. ثلاثتهن تنتمين تقريبًا إلى شريحة الـ 92% من المصريات المتزوجات اللاتي تعرّضن للختان، وتترواح أعمارهن بين 15-49 سنة، وفقًا لأرقام المسح السكاني الصحي لسنة 2014.1

حاولت تريزا تذكّر يوم ختانها. خمّنت عمرها بحركات اليد، “كنت حلوة كدا مش فاكرة كان عمري قد إيه”. لم تكن مدركة لما هي مُقدمةٌ عليه، ما يُشار له في أرياف مصر بـ “الطهارة”. دفعتها الأم للغرفة، وهي انصاعت لها ولا تتذكر ما حدث بعد تلك اللحظة. تقول أنها لا تشعر بشيء حيال الواقعة.

أما عزيزة فكانت في عمر الثامنة، وهو العمر الذي لا بُد أن يجرى فيه الختان بمحيطها، “حتى تتحمل الفتاة” كان تفسير عزيزة. وبالنسبة لبولين، كانت الواقعة في عطلة صيف أحد الفصول الابتدائية. استدعتها الجدة مشيرة إلى سيدة طاعنة في السن تجلس أمامها. أمرتها بالجلوس إلى جوارها. تُخمّن بولين أن هذه السيدة هي زوجة أحد الممرضين بالبلدة، لكن ما تدركه جيدًا أنها سيدة وُكّلت إليها مهمة ختان بنات القرية. تقول بولين: “بعد أن جلست ببضع لحظات، اقتربت إلي، أبعدت ساقيّ رغمًا عني، ثم خدّرتني بحقنة بنج”. هي تتذكر فقط آلام استخدام الحمّام لعدة أيام بعد العملية.

موقف المؤسسة الدينية: من الصمت إلى الرفض

لفترة طويلة لم تعلّق الكنيسة على الختان، سلبًا أو إيجابًا. كذلك كان موقف الأزهر ملتبسًا، وحتى موقف الحكومة المصرية نفسها التي منعت الختان بقرار سنة 1996 ولكن دون حسم حيث استثنى القرار الحالات المرضيّة التي يحدّدها الطبيب. لكن القانون أخذ طابعه الحاسم سنة 2008، بعد واقعة موت طفلة من محافظة المنيا (11 سنة) نتيجة تعرضها للختان قبلها بعام، حيث أصدرت الدولة قرارها بحظر الختان نهائيًا هذه المرة، وبدون أيّة استثناءات.

على خلفية الواقعة ذاتها، صرح كلٌّ من شيخ الأزهر آنذاك محمد حسين طنطاوي وبعده البابا شنودة بعدم ارتباط الختان بنص ديني في أي من الديانتين. كان هذا التصريح هو بداية لتوجه جديد تبناه الأزهر والكنيسة نحو رفض الختان، كجزء من خطاب رسمي مناهض.

ترى عزيزة أن شكوى المتزوجين التي تلقتها الكنيسة، هي سبب المنع الذي تصدّره لهن. فيما تعتقد تريزا بوجود المشكلات من قبل، لكن أحدًا لم يكن يناقشها. بعد إعلان البابا رفضه لهذه العادة، ونفي كون الختان شعيرة من شعائر الدين، تبدل الحال شيئًا فشيئًا. كان هذا سببًا كافيًا لاقتناع بعض النساء بانعدام جدوى الختان لبناتهن في الأجيال الأصغر. كما أكدت لي مُحدّثاتي أن ما تعظ به الكنيسة هو الصواب بعينه، فلا حاجة للتفتيش والبحث عن التأثير الصحي بقدر الأخذ برأي رجال الدين، قالت عزيزة: “والكنيسة دلوقت زي أهالينا زمان، الاتنين عايزين مصلحتنا”.

لم تكمل بولين تعليمها. تزوّجت وتعيش في هذا المنزل مع زوجها ووالدته تريزا. حضر الزوج، وتبدّلت حالة الارتياح. اقترحت عليهن تبديل المكان والانتقال إلى غرفة مغلقة فوافقن فورًا. كان في الغرفة سريران مُرتبان متقابلان، افترشت النسوة أحدهما، فيما عدا بولين التي استأذنت لتحضر لزوجها العشاء. أبقين لي السرير الآخر لأجلس عليه وحدي. أدرن جميعًا ظهورهن للحائط فيما تقابلت الوجوه، أشارت عزيزة إلى التعليمات التي وردت إلى كنيسة القرية من القساوسة الكبار الذين، على حد وصفها، لا يصح عصيانهم. تؤمّن تريزا على كلامها.

القس أندراوس فهمي يعلق على الختان بوصفه علامة مميزة لبني إسرائيل في العهد القديم، أما الأديان التالية ومنها المسيحية فلم تذكره، لكنه بالرغم من عدم ارتباطه بالإيمان أصبح عادة ثقافية مترسخة. لا تخصص الكنيسة دورات للتوعية بشكل منفصل بأضرار الختان، وإنما تعتمد في مُناهضته على التدريبات العامة للمقبلين على الزواج، ويرجع ذلك لصعوبة تقبل الناس، ولا سيما في المجتمعات القروية، الحديث الصريح المكثف عن الختان، نظرًا لأن البعض ما يزال يعتبره بمثابة حماية للفتيات.

يتحدث الأطباء الذين يأتون في زيارات للكنيسة عن التأثير السلبي للختان على النساء، لكن يصعب على النساء أنفسهن التحدث عن ما تسبب به الختان. تقول تريزا “لو جوزي عايزني، أنا معاه”، وهو ما اعتاد الناس في الريف إطلاقه على الممارسة الجنسية، فلا تُذكر صراحة، ولا سيما عندما تتحدث النساء. تأتي الواحدة على ذكر الجنس، بكونه عوز الرجل إلى زوجته، وتلبية الأخيرة، ولا شيء آخر.

توفي زوج تريزا منذ ثمان سنوات. بكلمات مستترة، تعلن عن انعدام رغبتها من بعده، كما لمحت هي والأخريات إلى أن هذا ما تفعله نساء القرى المحترمات. وبشكل يبدو منفصلًا عن أي قرار مشترك مُسبق، جنحت كلًا من بولين وعزيزة إلى عدم البوح. اقتصرت مُشاركتهن في هذا الجزء من الحديث، على الضحكات متباينة الإيقاع، مرة تنفرج الشفاه، ومرة آخرى يرتفع صوت القهقهة حينما ترمي تريزا بضعة تعليقات جنسية.

لا تعي عزيزة أي جريمة أو إساءة فيما حدث لها، تتفاعل مع أسئلتي بكلمات مبتورة. اكتفت كل من بولين وعزيزة بالتأكيد على أن العلاقة الحميمة بينهما وبين الزوج على ما يرام، بحكم إدراكهن لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة، وتوضح عزيزة هذا الإدراك بشروط مفادها صون المرأة لأسرار بيتها وطاعة زوجها، “لا فراق إلا بالموت لدينا”، تُعقّب.

لا يختلف الأمر بالنسبة لبولين، عدا مزيد من التحفظ بحكم وجود تريزا، والدة زوجها. تتطلع في اللاشيء من حولها، ثم تبتسم عينيها وتنطق “عادي، مفيش حاجة”.

الفجوة بين ما تردده تريزا، نقلًا عن الكنيسة، من عزوف المرأة المُختنة عن زوجها وزهدها في علاقتهما الجنسية، وحالة الإنكار في كلمات بولين، تفسرها عزيزة بكلمة واحدة “عيب”، لأنه ليس بوسع أي من النساء التي تعرفهن أن تجهر برغبتها في الانفصال لأسباب جنسية. الأمر يزداد سوءًا إذا ما اجتمع الختان والجنس وراء الخلافات الزوجية. لا مجال لشيء سوى السكوت، بحسبها.

“قديمًا كنا نُختن حفظًا على أغلى ما تملكه البنت، تعلل بولين “حتى لا تصبح سيئة السمعة”. من وجهة نظرها التربية هي العامل الأساسي في بناء الأدب، ولكن الشرف ما يزال مرتبطًا لديها ولمن حولها بغشاء البكارة، والأدب ما يزال مرتبطًا بالحفاظ على هذا الغشاء حتى الزواج.

طريق التوعية ما يزال طويلًا

ينوّه القس أندراوس إلى تضاؤل ممارسات الختان بمرور الوقت نظرًا لارتفاع الوعي شيئًا فشيئًا، كما تتردد حالات كثيرة على القساوسة للسؤال عن الختان وعن ضرورته لبناتهم. أما البعض الآخر من الأهالي، بحسبه، فما زالوا يفضلون السكوت وإجراء الختان على بناتهم دون مشاورات، وتحديدًا في المناطق التي تعاني نقصًا في الوعي.

ضعف الوعي كان أيضًا أبرز ملاحظات الدكتورة رنا جودة التي ترأس ملف الصحة الإنجابية بالاتحاد الفيدرالي لكليات الطب. تحكي لنا عن اندهاشها من انتشار الختان في بداية عملها على هذا الملف قبل خمس سنوات. صدمها وقوع الختان بين الطبيبات في الأقاليم المختلفة، وليس الأرياف فقط كما كانت تظن، “إن الختان بالنسبة لهن جزء لا يتجزأ من كونهن إناث”.

كلما اتجهنا جنوبًا، كانت الممارسة أعنف، بحسب د. رنا. ترى هي بأن الأمر أسوأ حتى من الخيال، وتستشهد بمحافظة أسوان، حيث ما زال سكانها يختنون بناتهن على الطريقة السودانية، والتي لا يقتصر الأمر بها على قطع جزء من العضو الأنثوي، وإنما تخييط كامل لهذه المنطقة، حتى تتزوج البنت.

كانت أبرز مشاهدات د. رنا ضمن جولاتها التوعوية من خلال الاتحاد في 25 جامعة مصرية وبعض القرى بالدلتا، هي استمرار ارتباط الختان في وعي الناس بالدين، حتى مع بروز خطاب ديني ينفي ويرفض هذا الارتباط في السنوات الماضية.

تقول د. رنا أن العديد من شيوخ المساجد الصغيرة والمعروفة في مصر باسم “الزوايا” ما يزالون يروّجون للختان ويدعون بوجوبه. وتعلل الفجوة بين الخطاب الرسمي ومثيله الواقعي في هذه المناطق، بأن رجال الدين بعيدًا عن المركز لديهم تشكك دائم في فتاوى الأزهر، لأنهم يعتبرونها جزءًا من خطاب الدولة التي تسعى إلى العلمانية في رأيهم. غالبًا ما تأتي تعاليم شيوخ المساجد المخالفة للفتاوى المعلنة، أكثر تأثيرًا في عامة الشعب التي تتبع فتوى الأقرب إليهم أكثر من اتباع رجال الدين على التلفاز.

وتشير آمنة نصير أستاذة العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر إلى أن الإسلام لم يقر الختان، وتؤكد ضعف الأحاديث التي يُعتمد عليها أحيانًا كسند ديني. وتُرجع وجوده إلى ممارسات قديمة جدًا في منطقة حوض النيل بأكملها. لكن بعض الأسر ما تزال تتمسك به كشكل من أشكال ضبط المرأة، وفقًا لنصير.

كأس الختان الداير

في القرية نفسها، اختارت فاطمة (33 سنة) – وسيطتي نحو النساء السابقات – أن تسرد حكايتها بمعزل عن جاراتها اللائي تُشاركهن كل شيء، ما عدا الدين. “حسيت بكسفة وخجلت من فتح رجلي قدام ستات أغراب”، هكذا وصفت فاطمة مشاعرها في ذاك اليوم.

في صباح ثاني أيام عيد الأضحى المبارك، نادتها أمها. ستختنها حكيمة الوحدة الصحية، ما يهبها فرصة أكبر بالنجاة. عاونت جارتها الحكيمة في مهمتها. بقوة طفلة في التاسعة من عمرها، قاومت فاطمة في البداية، لكنهن لويْن ذراعيها، بحيث يلف كل ذراع حول الساق المقابلة له، بشكل يعجزها عن الحركة تمامًا. تركت الأم وصيتها، التي لم تفهمها فاطمة آنذاك، “خليها متجورش عليها”، بما يعني أن لا يُقطع جزء كبير من العضو الأنثوي للطفلة. تقول بتأثر أنها أدركت معنى وصية أمها بعد الزواج.

“لا داعٍ للخوف”، هذا ما قالته لها الجارة، فقد أتت هذه الحكيمة لتؤدي مهمة تحويلها لفتاة مؤدبة لا لتؤلِمها. فقدت الوعي بعد ذلك بلحظات على خلفية البنج الذي أعطي لها، وظلت طريحة الفراش إلى أن بدأت الدراسة وقابلت فتيات الحارة لتحكي كل منهن حكايتها مع الختان. بدَا وكأن الأمهات نسّقن العملية معًا وبشكل مسبق، لتُختن كل من في سنها في نفس الفترة تقريبًا.

بشيء من الخجل الممزوج بالألم تتطرق فاطمة إلى عدم شعورها بالسعادة مع زوجها في علاقتهما التي تشبهها بعلاقة القطط، لأن أيًا من الطرفين لا يشعر بالآخر. كما تعتقد أن الختان أحد أسباب إعراضها عن العلاقة في أغلب الأحيان. يحضُرها يوم الختان بين حين وآخر، لكنها تميل لإسقاطه من رأسها، “الزمن يمر، وهو وحده كفيل بأن ينسينا كل شيء”.

مثل اعتقاد والدتها بأهمية الختان في تأديب البنت، تفكر فاطمة بالأمر نفسه لبنتها. أسألها هل هناك فائدة ترينها لبنتك من ذلك؟ فتصمت. تجول بعينيها يمينًا ويسارًا، ثم تعبر عن رفضها لعدم ختان صغيرتها، فهي لا تريدها أن تصبح مثل بنات عمها السيئات، لاعتقادها أن سلوكهن السيء سببه أنهن لم يختّنّ. تصفهن بأن “عينهم قوية وقلالة الحياء”، فدائمًا ما تسألن عن العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة، وهو ما تعتبره فاطمة أمرًا مرفوضًا.

تذكر رنا شعور النساء بأهمية إجراء الختان لفتياتهن للحصول على قبول اجتماعي بين العائلة، ولضمان زواج صغيراتهن في المستقبل. لا تستطيع الأم تحمّل نظرات الأقارب لها لأنها لم تختن ابنتها، تنقل رنا عن إحدى الأمهات في الجيل الأصغر، والذي تميل النساء فيه إلى الصمت عن معاناتهن جراء الختان، حتى وإن بدا ذلك على ملامحهن أثناء الجلسات، من منطلق أنه لا مجال للرجعة فيما كُتب عليهن.

تعتقد فاطمة أن الختان سيعزز من الأدب الذي تحاول غرسه في صغيرتها ذات الستة سنوات، حتى ولو كان عن طريق شيء اندثر من حولها نسبيًا، لكنها تراه في محيطها الأصغر بين نساء عائلتها اللاتي ما زلن يختنّ الفتيات. تريد ولا تريد لابنتها الشيء نفسه، متنازعة بين الرغبة في إضفاء معنى الأدب وبين الخوف من مصير علاقة زوجية مشابهة لما تعيشه مع زوجها.

ترى د. رنا بأهمية اجتماع الأطراف المهتمة بقضايا الختان، سواء من منطلق طبي أو ديني، للتمكن من تفنيد الحجج الدينية التي يعتقد الناس بها خطأ من ناحية، ولإقناعهم بواسطة معلومات علمية دقيقة. تُرجع د. رنا جزءًا من فعاليّة بعض الحملات التي يقومون بها إلى الخلفية الطبية التي يتحدثون من خلالها، والتي تساهم في كسب ثقة الناس.

هل تنزع الأمهات صفحة الختان من حياة بناتهن؟

بعد نهاية حديثنا، قررت فاطمة أن تعرفني على امرأة أخرى غير اللواتي تحدثت معهن، ونبهتني إلى كونها سيدة خجولة وقليلة الكلام بطبعها، الأمر الذي سرعان ما تجلى لي خلال جلستنا. كانت نيفين ترتدي عباءة قطيفة فاقعة اللون، وتعقد رأسها بإيشارب صغير، وإيماءات وجهها المتحفظ تعكس إحساسًا بالانتظار وأحيانا الشك في نوايا السائلة. تزوجت في عمر الثامنة عشر أي بعد ثماني سنوات من واقعة الختان التي تعرضت لها. وحاولت أن تبدو غير متأثرة بالواقعة ولا بالحديث.

ثم أفلتت منها جملة كاشفة: “ربما أن عدم تأثري بالختان، سببه أنني لا أريد التفكير بالموضوع”. بإمكانها أن تجد تبريرات لما فعله أهلها، الذين لا ترى أهمية لمناقشة الأمر معهم، فالختان كان فرضًا على كل بنت، بحسبها. يأتي صوت والدها من الخارج فيقطع الحديث “المياه جات يا نيفين”، ترد عليه سريعًا، وتتطلع إليّ منتظرة السؤال التالي. الأم التي قررت تختينها لم تفعل ذلك مع أختها الصغيرة، ولطالما تجاهلت نيفين الأمر ولم تسأل أهلها عن سبب التفرقة. تكتفي فقط باعتقادها أن تغير الزمن هو السبب، كما لم يكن باستطاعتها انتقاد أمها في الماضي. وها هي تبلغ اليوم أربعًا وثلاثين سنة.

على خلفية تحذيرات أقاربها الذين يسكنون الحضر بالمحافظة نفسها، حيث أعلموها بوقوع حالات موت ونزيف نتيجة الختان، اتخذت نيفين قرارها بأنها لن تختن ابنتها. لم يناقشها زوجها ولم ينتقدها الأهل. أخبرتني بقرارها هذا، لتدخل بعد دقائق بنت ذات جسد مُمتلئ تبدو أكبر سنًا مما قالته نيفين، ترتدي عباءة سمراء وتحتضن كتبها. تعرفني عليها قائلة “بنتي، في الفصل الثالث الإعدادي”. تنظر الفتاة باستغراب، تعطي أمها كتب الدرس الذي أتت منه للتو وترحل.

يجري هذه العملية أشخاص متمرّسون، على حد زعم نيفين. كان “الشيخ عبد الحفيظ”، هو رجل الختان في القرية. بعض الأطباء يفعلون ذلك سرًا، وأشارت إلى أن النساء لسن حريصات اليوم على ختان بناتهن مثل السابق، لأن المحيطين بهم لا يولون نفس الاهتمام للختان أيضًا. مات هذا الشيخ ولم يأخذ أحد مكانه، على الأقل لم يُعلن ذلك.

يحصي المسح السكاني الصحي لسنة 2014 نسبة من يُجرون الختان لهؤلاء الفتيات من العاملين بالقطاع الطبي بنحو 82%.2 أما غالبية النسبة الباقية قامت بها “الداية” كونها متعهدة المهام الطبية من دون تعليم أو تصريح لمزاولة المهنة، لا سيما في المحافظات الحدودية والمناطق القروية، حيث النساء معرضات للختان بنسبة 95%، مقارنة بـ 86% في الحضر.3

نيفين أيضًا لم تفهم معنى الختان يوم أن قررت الأسرة مصيرها كغيرها، لكن كلمة “الطهارة” ترددت كثيرًا في منزلها وسمعتها من النساء اللاتي يكبرنها، للحد الذي جعلها مألوفة. وعيها بالمعنى تأخر لصالح الألم الذي ما زالت ذكراه حاضرة في عقلها، بعدما شارفت على منتصف الثلاثينات. وبالرغم من تدني نسب هذه العملية في محيطها اليوم، إلا أنها تعرف أن هناك من يخضعن بناتهن لها، ولكنهم يكتمون ذلك خوفًا من المساءلة. سمعَت سابقًا بموت إحدى الفتيات أثناء ختانها، ما عزز إحساسها بصحة قرارها تجاه ابنتها، إلى جانب ما تسمعه في التلفاز من الأطباء عن تأثيراته مستقبلًا.

وفقاً لأحدث أرقام المسح السكاني الصحي على المستوى الوطني في مصر سنة 2014، هناك انخفاض في ممارسة الختان، إلا أن أكثر من خمس الإناث حتى عمر التاسعة عشر تعرضن له.4 كذلك يشير المسح إلى انخفاض في نسبة السيدات المؤيدات للختان، حيث بلغت 58%، مقارنة بـ 82% سنة 1995.5 لكن وفقًا لتقرير عن اليونيسف سنة 2018، ما تزال مصر ضمن الدول الأعلى في نسب الختان، مصنفة في المركز الرابع عالميًا.

حافظت نيفين على جديتها وابتسامتها المتوجسة أحيانًا. طوال الجلسة كنت أشاركها حكايات فتيات أخريات قابلتهن لكسر حاجز تحفظها، والذي حاولت التغلب عليه بضحكات قصيرة وردود مقتضبة. في النهاية شكرتها، حيّتني بهدوء وانصرفت أنا برفقة جارتها، وسط عيون تملؤها الحيرة ووجوه تتطلع إلى الغريبة التي ترافق السيدة فاطمة. وعلى مخرج القرية، لوّحت فاطمة لي بيديها، وصدى جملتها الأخيرة في أذنيّ “أهو سلو بلدنا”.

* تنويه: جميع الأسماء الوارد ذكرها بهذا التقرير مستعارة.

المصدر: موقع چيم.

قسم: مجتمع، سلطة.

تاريخ النشر: 5/8/2019.

لينك القصة: https://jeem.me/مجتمع/أميرة-موسى/عفة-مشوهة-وأعضاء-مشوهة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *