قبل أكثر من 25 عامًا، في فناء مدرسته الابتدائية، بصق أحد الأولاد على مايكل (اسم مستعار/31 سنة)، وهو ممسكا بسندوتش، قال لي “اللهم إني صائم، أبعد عني”، حينما عاد إلى منزله، أفهمه الأب معنى صوم المسلمين. ونصحه بأن لا يأكل أمام رفاقه.
بالرغم من حضور ذاكرة المضايقات التي تعرض لها في صغره، قرر وزوجته أن من حق طفليهما تناول الطعام في أي مكان بشكل طبيعي، يوضح “مش هحرم عيالي من الأكل عشان حد”. مثل هذه المواقف لا تزيده سوى عندًا أمام أصحابها. في رأيه وصاية الصائمين هي سبب المزايدات التي يتعرض لها المفطر في رمضان لأنهم غير قادرين على قبول الاختلاف.
صيام الأغلبية مُلزِم للأقلية
المحامي وعضو الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان والقانون سابقًا، أحمد حشمت، يؤكد أن يقين الأغلبية بقدرتها على التحكم في حياة غيرها، يدعمه تقاعس الدولة عن حماية حقوق “الأقلية”، بما تنطوي عليه الكلمة من اختلاف يتجاوز الدين، ليشمل أي مجموعة لديها خيارات مختلفة، لأن الدولة تعتمد على الأغلبية للحصول على شرعيتها. من هنا تُسيس صراع الحقوق المكتسبة للأغلبية على حساب احترام الحريات، لصالحها. “أراعي الناس آه، لكن لأ، أنا لو جعان هاكل، في عربيتي حتى، هو يبص بقى ويستغفر، دي مشكلته”.. يشرح مايكل. في حين يميل لتقدير مشاعر بعض الصائمين، يتجاهل غضب البعض الآخر إذا ما شعر بإجبارهم له ليمتنع عن الطعام والشراب. يستشهد ببعض المضايقات “بيبصوا على رسمة دينية في دراعي، والمعاملة بتتغير”.
لديه مكتب أعمال حرة في السويس، حيث يعيش مع زوجته وطفليهما، خارج المنزل يحاول أن يبقي طعامه وشرابه داخل أماكن مغلقة، لكنه يؤكد أن أحدا لن يمنعه من ممارسة حياته بشكل طبيعي في رمضان، حتى وإن اضطره ذلك للعراك، من أجل نفسه أو أحد أفراد أسرته. خرجت زوجته عن صمتها قائلة “بسمع كمية دعاء عليا في الشهر دا، وجملة اللهم إني صائم، مش ممكن” مضيفة “المشكلة إنهم بيقولوا كده وبيبصوا برضه”.
على طريق مصر- السويس، لم يجد استراحة مفتوحة لشراء الطعام، شعر بهبوط، فنزل إلى أحد الأديرة ليأكل. يصف مايكل غلق المحال وأذى المفطرين عمومًا بـ “متاجرة الأغلبية” تجاه هذه الفئة بصرف النظر عن الدين، لأنها تنطبق على بعض المسلمين المفطرين أيضًا، يعلق على ذلك ضاحكًا “دي حاجات مستفزة ليا كشخص جعان عاوز يأكل”.
ينسب أستاذ علم الاجتماع أحمد سعيد زايد اضطهاد المفطرين إلى شعور المجتمع بالضعف حينًا، أو الهوس الديني والمزايدة حينًا آخر. ويظل الهدف فرض وجهة نظر معينة على جميع الفئات.
الوجه المخيف.. يساعد أحيانا
في أحد النهارات الرمضانية، على كوبري غمرة، أشعل المحامي العشريني نضال سِيجارته، تطلع إليه مُسن، ثم سبّه، حينما رد نضال عليه، تدخل شابان، كانا يتابعان الموقف من بعيد، “جم مسكوا فيا، وضربنا بعض”. لا يرى في المجاهرة بشرب الماء أو التدخين أذى للصائمين، تعدياتهم هي الأذى. يرسم نضال على وجهه تعبيرات مخيفة، بحسبه، تجنبًا لتطاول الصائمين عليه، وهو يدخن سِجارته الصباحية في الطريق لعمله، كالمعتاد. يقول “بالنسبة لي بتبقى بصات بس”. الاستهجان الذي كان يتعرض له في محيطه، قل تدريجيًا. تفهمت أسرته التي يعيش معها في شبرا، عدم صومه في إطار عراكه لنيل حقه في اختيارات مختلفة عنهم، يقول “أمي بتحضرلي الفطار وهي صايمة”. لكن بعض الأقارب لازالوا غير قابلين لذلك. نهاه أحدهم يومًا ما، عن الأكل أمام الأطفال الصائمين، لكن ردوده العنيفة، وفقًا لوصفه، أنهت الموقف.
من بين الأماكن المغلقة يعرف نضال طريقه إلى أماكن توارب أبوابها للمفطرين.. “طعمية مقلية، وأفلام أجنبي شغالة، بيس يعني بس في المداري” يشير إلى أحد مقاهي في حيه. يصف حملات الشرطة للقبض على المفطرين بالفاشلة، تهدف لتكديرهم، يردف “واحنا واخدين على الكدر في رمضان وغيره”. في تقديره تجنب الأكل أمام الصائمين مراعاة لهم لا يجب أن يتم عنوة، من منطلق حق الأغلبية المكتسب.
منتصف العصا
صامولي شيلكه، الباحث الاجتماعي بمركز لايبنتس للشرق المعاصر، والذي أمضى فترات طويلة بمصر، يرى النظام المصري، ولا سيما بعد 2013، في جوهره نظام محافظ، مزدوج، يعتمد على خطاب تنويري ومحالفة بعض العلمانيين بالتوازي مع قمعه للإسلاميين وشن حملات ضد بعض الفئات كالمثليين والمفطرين، يفسره برؤية النظام لنفسه كحصن للوطن والدين والأخلاق أمام المجتمع.
لكن زايد يرجع ذلك إلى خشية الدولة اتهام الجماعات الدينية لها بعدم تطبيق الشريعة، في ظل تصارع الطرفين على تمثيل الدين. يطرح زايد تساؤلا حول مسألة أحقية الدولة في تطبيق الشريعة، مقابل مد هامش الحريات.. “هل هي معذورة؟ هل لها أحقية؟ دا موضوع للتفكير”. بينما يصف سماح الشرطة أحيانًا للمفرطين بالأكل والشرب داخل المقاهي وليس خارجها بالـ “حل وسط”.
يوضح حشمت أن هذه الحملات تستند على مفاهيم حماية الآداب العامة والسلام الاجتماعي، في ظل غياب نص يجرم فعل الإفطار نفسه. القانون الذي لا يحدد بوضوح هذا النوع من المخالفات، يترك تقدير معنى تلك المفاهيم للسلطات العامة، بما فيها الشرطة، التي تعتبر الإفطار وفتح المقاهي أبوابها نهارًا مخالفة للنظام العام، تستوجب العقاب.
غياب محددات واضحة لمفاهيم كالآداب العامة وخلافه، يعطي للشرطة صلاحية تقدير كلمات فضفاضة لا يمكن الاتفاق على تعريفها. تُوجد النيابة سندًا قانونيًا ضد المفطرين بالقياس من قانون العقوبات وليس بنص صريح. يُعاقب المفطر بدفع غرامة مالية، ويطلق سراحه من سرايا النيابة أو ديوان القسم، بعد الانتهاء من إجراءات روتينية، بدون تحقيق أو تحليل طبي للمتهمين، بحسب حشمت.
في الخدمة.. الصيام أمر عسكري
أثناء أداء الخدمة العسكرية، استطاع نضال التكتم على إفطاره بشراء أطعمة مغلفة ليلًا من “الكافتيريا” الممنوع بها البيع في نهار رمضان، يحتفظ بالأكل إلى أن يجد مكانًا أمنًا ليتناول واجباته، حتى كان أصعب المواقف التي تعرض لها نتيجة إفطاره.
“كنت بمشي بعيد خالص، لغاية ما أوصل لمزرعة مفيش فيها حد، استخبيت يومها وولعت سيجارة” يحكي نضال. أبلغ عنه أحد العساكر، الذين يراقبون بعضهم البعض، وفقًا له. قال له قائد الكتيبة “الصيام أمر عسكري”، حُبس 10 أيام مقابل يوم الإفطار. علل القائد ذلك بأن السلطة في الجيش لله والوطن، وأن واجبه أن يحاسب العساكر على أخطائهم في حق الدين كما الوطن.
دين الدولة وخيارات الأقليات
ينظر حشمت لمسألة الإفطار في إطار أشمل، المسؤول فيه عن تطبيق القانون ينتمي لفكر الدولة الديني. “طول ما الدولة لها دين، هيفضل حرمان البعض من خيارات مختلفة عن الأغلبية، اللي أصلًا بتغالي في ممارسة شعائرها على حساب الباقيين”.
شيلكه صاحب كتاب “هتتأخر على الثورة” يتفق بقوله.. “الدولة مش بتعمل دا لأجل إرضاء الناس فقط لكن لأن إفطار البعض مستفز لغالبية مسؤوليها كمان، فميصحش كدا”، يتابع.. “النظام الحالي أقرب للحس الشعبي من نظام مبارك. وبالذات الحس الشعبي الديني”.
مؤكدًا على تأثير آخر للأنظمة السياسية الحداثية، التي تأتي فيها السلطة الواجب إطاعتها من أعلى. والسلطة هنا مُمثلة في الله والحكومة.
تزامنت الواقعة مع عودة الكتيبة من تدريب شاق في اليوم السابق، سارع العساكر إلى صنابير المياه، فاعتمد القائد قرار الحبس لاحقًا. يقول نضال “كان عايز عسكري ولا اتنين يعملهم عبرة بعدها”. أثناء فترة الحبس لم يدخل له أي طعام إلا في موعد الإفطار. لحقته “معايرة” باقي العساكر فيما بعد، “كانوا بينادولي بنضال جورج”. بعدها جَاهر بالتدخين أمامهم كنوع من العِند.
الجهر بالوصاية والخوف
رفضت فاطمة (35 سنة/ اسم مستعار) الحديث معي تلفونيًا، “متقدرش تحكي في حاجة زي دي بصوتها، موقفها صعب” فسرت لي إحدى صديقاتها القليلات اللاتي يعلمن أنها لا تصوم. والتي كانت حلقة الوصل بيننا. حينما سألت فاطمة عن محل إقامتها ردت باقتضاب “من شمال الصعيد”. فاطمة لا دينية، متزوجة ولديها بنتين في مراحل دراسية مختلفة. تكتم عن أهلها وأسرتها بالكامل أمر إفطارها، كما هويتها الدينية. الحمام هو الحيز الوحيد الذي يمكنها الأكل أو الشرب بداخله.
تقول “لو حد عرف إني فاطرة من غير عذر الدنيا تقوم ومتقعدش” مضيفة “بخاف حتى أشرب قدام بناتي لأحسن يقولوا قدام أي حد”، تُرجع ذلك لطبيعة المناخ المحافظ الذي تعيش فيه، حيث يعادل المفطر الكافر. أكثر ما تخشاه هو رد فعل والدها وأم زوجها، التي تسكن في الشقة المقابلة لها. يدفعُها ذلك إلى الامتناع عن طهي أو تسخين أي مأكولات نهارًا، تعلل “ممكن تشم الريحة، وساعتها مش هعرف أجيبها في البنات”.
“ازدراء الأديان” بالمرصاد
بعد الثورة ظهرت دعوات لاحترام حق البعض في الإفطار، سواء لوجود أقليات دينية آخرى أو لأن الجميع غير ملزم بما تُقره الأغلبية، يشير حشمت إلى صعوبة تدشين حملات من هذا النوع الآن، لأنها ستُقاضى بتهمة ازدراء الأديان، والدعوة ستكون غير قانونية بموجب نص المادتين (98و) و (102) من قانون العقوبات.
رهبة فاطمة من موقف الناس تجاهها إن انكشف سرها، تدفعها لإهمال التغذية طوال الشهر، لأنها تتوقع قدوم أحدهم في أي وقت، بالإضافة لعدم مشاركتهم الطعام وقت السحور لأنها لا تصوم، تقول “حماتي تخبط عليا تلاقينى بفطر مثلًا أو اللقمة في بقي”.
يصبح البسكويت أو بواقي إفطار الطفلتين قبل الذهاب للمدرسة طعامًا مناسبًا إن وجد. أثناء الحوار كانت فاطمة تعتذر، تطلب تأجيل الكلام، أو تغلق حسابها الإلكتروني، وتغيب فجأة ثم تعود وتكرر الاعتذار لظروف شخصية، وتستكمل الحكي.
في أحد المتاجر، فتحت علبة عصير لتشرب منها، جاء رد صاحب المتجر “تفيه بسرعة أنتِ ناسيه رمضان”، جاوبت سريعًا بضحكة “آه فعلًا ناسيه”. تحمل حذرها خارج البيت الذي تقضي فيه معظم حياتها كربة منزل. بالرغم من اصطحابها لأطفال لكن نظرات الناس للمياه في يدها نهارًا تجعلها أكثر انتباهًا لأفعالها. وسرعة في الاعتذار عن الموقف. تقول “بيبصوا للإزازة وكأنها حالة زنا”.
بالنسبة لشيلكه الإشكالية ليست في الإفطار وإنما في إعلانه أمام الغالبية من الناس، لأنه يهدد طبيعة المشاركة العامة في فعل الصيام، حتى في الأوساط الغير متدينة، يدلل على ذلك برفض البعض الإفطار حتى في حالة وجود عذر شرعي كالسفر.
بحكم اهتمام شيلكه البحثي للظواهر المرتبطة بالتدين الاجتماعي في مصر يقول “من خبرتي المصريين جاديين جدًا في الصيام، حتى لو واحد ملوش في أي فرض ديني بيسكر، مش بيصلي، المهم متجيش في الفريضة العلانية”.
يربط ردود أفعال الناس تجاه المفطر سواء بالنصيحة، النقد، الضغط أو التجنب باهتمام الناس بالإطار الظاهري المنطلق من قاعدة مفادها “كلنا مسلمين بنصلي ونصوم”، حتى وإن لم يكونوا كذلك، لذا يحفظ المفطر سره، ويخبر الآخرين أنه صائم.
بيت مليان زومبي
يميل المصور جورج، (34 سنة/ اسم مستعار) لوضع السماعات في أذنيه وقت تناول الطعام، لإلهاء نفسه عن تعليقات المحيطين به، يشاركنا بعضها “مصمصة شفايف، استغفارات، وجمل زي يعني مش قادر تمسك نفسك، متخلوناش نفطر عليكوا.. إلخ”.
يشكو من التصرفات التسلطية بسخرية “تحسي إنك ضيفة في بيت مليان زومبي، لازم تلتزمي بقواعدهم في لبسك، مواعيد أكلك، وتصرفاتك كلها”. يتعجب من استنكارهم لوجود مفطرين “ميا ساقعة إيه يا بيه احنا صايمين” وفقًا لبائعي الأكشاك.
يتذكر حينما طلب من والدته صوم رمضان بعد يوم مدرسي مليء بـ “يا فاطر رمضان يا خسران دينك، القطة السودا هتقطع مصرينك”، ضحكت الأم حينها.”كانت متكدرة وهي بتقولي كُل في الحمام، أو استنى ينزلوا الفسحة الأول، بس هتعمل إيه” يحكي عن انزعاجها، معربًا عن خوفه من كلماتهم التي صاحبته لفترة طويلة.
تحول الخوف لتجاهل يتجنب معه جورج النزول إلى شوارع القاهرة نهارًا، ولا سيما بصحبة زوجته، حتى لا يتعرضا لأذى. “مبنزلش غير للشديد الأوي يا إما أوردر شغل، أو كارثة” يوضح. يتأقلم على حد وصفه، مع ممارسات الأغلبية المرتبطة بهذا الشهر، إلى أن ينقضي.
خليك في البيت.. أفضل
توافقه هالة (31 سنة/ اسم مستعار) التفضيل ذاته بعدم الخروج في رمضان، خاصة أنها غير محجبة، وتعيش في محافظة الأقصر. حادث التحرش العالق بذهنها من 10 سنوات سبب آخر. تسترجع “كنا قبل الفطار والشارع هادي، فجأة لقيت حد بيجري ناحيتي، اتخضيت”، تضيف “لما بصيت لقيته طلع عضوه الذكري وطبعًا أنتِ فاهمه الباقي”. لم تعد الشخصية المسالمة التي كانت عليها. “دلوقت بيتقال إني شوضليه” على حد تعبيرها. لا تمسك هالة عن الطعام في نهار رمضان، إذا ما استدعت حاجة ما خروجها.
تنعت خوفها من كلام المحيطين بها لأنها مفطرة بـ “شغل عيال، دلوقت كبرت وفهمت”. الصيام قرار شخصي، والممسك عن الطعام لا يجب أن يتأثر أو يؤثر على قرار غيره في رأيها. تتجاهل تعليقات العابرين “على الأقل متكليش قدام الناس”.
يعقب حشمت على افتراض المجتمع لحتمية صوم الجميع بأن دستور الدولة ذاته لا يعترف إلا بالديانات السماوية الثلاث، لذا لا اعتراف بحقوق اللادينيين مثلًا، بالإضافة إلى السلطة الاجتماعية التي يتمتع بها الأكثرية.
الفراغ العقلي والوصاية
اقترب موعد الأذان، في موقف السيارات، بينما تستعد هالة لركوب الميكروباص، أحد السيدات أرادت أخذ مكانها، أيدها الباقون، قائلين “هي صايمة والجو حر، لكن أنتِ فاطرة، خليها تركب”. رفضت هالة التنازل عن مكانها، وردت عليهم “اللي صعبانه عليه ينزل ويركبها مكانه”. وفقًا لزايد تستند الغالبية الصائمة في تمييزها السلبي ضد المفرطين من شعورها بالغيرة منهم، والرغبة في فرض المراعاة الوجدانية للصائمين. يزيد الفراغ العقلي للناس من وصايتهم على الآخر، بحسبه. أما قبول التعددية باختيار البعض الإفطار ينحصر في مناطق منفتحة بالمدن الكبرى، مثل وسط البلد في القاهرة والإسكندرية، على عكس المناطق المنغلقة.
الموقع: المنصة.
قسم: مجتمع.
تاريخ النشر: 21/5/2019
رابط القصة: https://almanassa.com/stories/3834