في سبتمبر/ أيلول من عام 2017، وفي قرية تابعة لمدينة ميت غمر في محافظة الدقهلية شمال العاصمة المصرية، استيقظت الخمسينية نبيلة على خبر القبض على .ابنها الميكانيكي العشريني محمود، على خلفية علاقة جمعته بإحدى الفتيات
غالباً ما يتجاهل المجتمع المصري الحديث عن العلاقات خارج إطار الزواج. لكنه فور أن يبدأ في تناولها، ينقسم إلى فريقين: واحد مجتمعي، يتبنى وجهة نظر تدينها وتحاكم أصحابها بدعوى “الأخلاق والفضيلة”، وآخر حقوقي، يستنكر الأعراف الاجتماعية وينظر إليها كقيود.
الجنس محظور… الجنس دون زواج “محظوران”
وصلت نبيلة إلى منزل جارتها السبعينية فريال، بعد أن شرحت لها الأخيرة الغرض الصحافي من مقابلتنا. دخلت تغطي جسدها الممتلئ وقامتها الطويلة عباءة بنية اللون، وتعقد على رأسها حجاباً بسيطاً كأغلب نساء المكان.
في البداية لم تُسمِّ الواقعة، اكتفت بقول “صحيت من النوم، قالوا ابنك كذا كذا”. تفتح فمها، ثم تغلقه سريعاً عاجزةً عن وصف شعورها في ذاك اليوم، ومشيرة إلى أنها تمنت الموت له ولنفسها.
ما حدث أن أهل إحدى فتيات القرية اكتشفوا حملها، وعرفوا أن الأب هو محمود، فاستدعوه إلى بيتهم بحيلة، ثم أخذوه إلى مركز الشرطة في المدينة.
تروي نبيلة أن أبناءها الثلاثة الآخرين حضروا من السعودية، حيث يشتغلون عمال بناء، للمساعدة في “المصيبة” التي حلت على البيت. أغلقت هي هاتفها، وأرقدتها الحُمى في السرير أياماً.
أخبرتني نبيلة في البداية أن هذا كل ما تعرفه عن القصة، وأنها غير متأكدة من كون العلاقة رضائية أم اغتصاباً.
نبيلة امرأة أمية، مُنعت من خوض امتحانات المرحلة الابتدائية لتزامنها مع وقت الحصاد. كان أبواها يتفرغان لمهام الزراعة، مصدر دخل الأسرة، فكلفاها بالاعتناء بأختها الصغرى وبأعباء منزلية أخرى.
كررت نبيلة السيناريو نفسه مع أولادها بدافع الخوف من فقدان السيطرة على حركتهم: “كانوا في الإعدادية لما جالي شكوى من واحد جارنا في الغيط (الحقل)، خدوا من أرضه فول مع زمايلهم، قولت لأ، لازم ألحقهم”.
لسنوات طويلة اعتقدت أنها أحسنت التصرف معهم، قبل أن ينجرف أبناؤها مع تيار “العيال الخيبة” على حد تعبيرها، لكنها الآن تشعر أنها “هيِّفتهم، ضيَّعتهم من علامهم، وبردو اللي حصل حصل”.
يبلغ عدد المتسربين من التعليم في قرى مدينة ميت غمر وحدها، ممن ينتمون لسن أولاد نبيلة وقت خروجهم من المدرسة (12-13 سنة)، أكثر من 3 آلاف طفل/ة، بحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وضمن 9 أسباب يرصدها التقرير، يسجل عدم رغبة الأسرة في تعليم أولادها والظروف المادية.
العلاقة التي دفعت بمحمود إلى مركز الشرطة انتهت ودياً. وُثقت بورقة زواج عرفي في المركز، ووقع الشاب شيكاً بمبلغ مالي كبير، كضمانة لإتمام الزيجة مع بلوغ الفتاة السن القانوني.
وبعد خروجه، رحل مباشرة بمفرده إلى مدينة أخرى لستة أشهر، تجنباً لرؤية الناس بعدما ذاع الخبر في القرية. وحين عاد، أرسل إلى أمه يستأذنها في الرجوع للبيت. رفضت نبيلة. وبنبرة صوت أعلى من إيقاع الحوار بيننا رددت: “قلت لأ. يشيل بَلوِتُه (مصيبته). أنا مسامحة، بس ما يجيش البيت”.
تنظر نيفين عبيد، الباحثة في النوع الاجتماعي، إلى رد فعل نبيلة على أنه “تصالح آمن” مع الواقعة، نظراً لصعوبة اعتراف مختلف أطراف المجتمع بوقوع الفعل الجنسي. وتضيف لرصيف22: “يحتكمون للعرف، ويتزوجها”.
عُقد القران بعد عودة الابن. لم تحضر نبيلة، رغم أنها تكفلت ببعض المصاريف اللازمة لتأسيس بيت الزوجية. وضعت الفتاة طفلاً، لم تره نبيلة سوى محمولاً على يدي أمه حين تجمعهما الصدفة في شوارع القرية. تتحاشى عيونهما الالتقاء. “بتشوفني تروح مزوَّغة (هاربة) كدهو، وأنا ألحق نفسي كده بردو”.
حتى اليوم، لا تقدر نبيلة على النظر إلى ولدها في عينيه: “نفسيتي تعبانة منه أوي”، وإنْ كانت لا تحتمل أن يذكره أحدهم بسوء. يقبِّل محمود رأسها، فتطلق لسانها في عتاب لا يُذهب الغضب. تخاطبه: “لو كانت أي غلطة غير دي، كنت هتحملها”.
لا تتحمل ما فعله معنوياً، لكنها تتحمل مادياً مصاريف بيته بعد الزواج، وحتى الآن.
الوصم يمشي على قدمين
في الشهور التي تلت الواقعة مباشرة، طاردت نبيلة أحاديث الناس بقوة، وتحديداً في السوق الأسبوعي، التجمع الأبرز لنسوة القرية. “كنت أبقى بشتري حاجة، ألقى واحدة تميل علي وتقول ابنك عمل كده إزاي؟”. تهرب من عباراتهن الاستنكارية: “هو كان انهبل!”. تترك ما اشترته، تهرول سريعاً دون أن تنبس بكلمة.
في تقدير سهير صفوت، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، نحن أمام مجتمع لا يغفر، لذا تشعر النساء اللواتي تمثلهن حالة نبيلة بالخوف من التعامل مع الآخرين، بالرغم من أنهن لسن شريكات في الفعل. خصوصية المجتمع القروي تزيد من تعقيدات الحالة، بسبب تداخل العلاقات وتشابكها بصورة أكبر وأكثر تعقيداً من المدن. وتضيف لرصيف22: “المجتمع القروي علاقة وجه لوجه، ما بتقدرش تداري”.
عدد قليل من الجيران أبقوا على علاقتهم بنبيلة، منهم سهام (أربعينية)، التي تذكر عِشرتها الطيبة مع نبيلة للتدليل على حسن سلوك الأخيرة. توضح أن “الموضوع دا تعبها”.
“مهزومين”. هكذا تصف نبيلة حال باقي أبنائها، فقد خسروا عملهم في السعودية بعد اضطرارهم لمخالفة الكفيل والسفر إلى مصر لإنقاذ الأخ. يتجنبون مخالطة أهالي القرية. تضرب مثلاً: “بعدما كانوا يخرجون لصلاة الجمعة وقت قراءة القرآن (قبل الخطبة بفترة)، صاروا يذهبون في آخر صف، وينتهون ويخرجون بسرعة كي لا يضطروا لمحادثة أحد”. تعلّق نبيلة: “حياتنا قبل العَمْلة دي غير بعدها”.
بعد مقابلتين جمعتا بيننا، لم يكن أمر الرضائية في هذه “العَمْلة” محسوماً، لذا قصدتها بزيارة ثالثة. صارحتني نبيلة أنه برغم مشاركتها معي أعمق التفاصيل لديها، وأجوبةً لأسئلة لم يسبق أن فكرت فيها، فإن مسألة الاعتراف بأن ابنها قد مارس الجنس مع إحداهن بالتراضي دون زواج، قد سبقها كثير من المراوغة، لأن جزءاً من نبيلة يفكر بذات الطريقة التي يفكر فيها مجتمعها، ويحملها هي مسؤولية ما حدث.
الجزء الآخر يدافع: “والله أنا مربياهم تربية من نار”. وتشرح لي حينما أسألها عن معنى ذلك: “يعني مربياهم جامد، بشدة. كبيرهم اللي عنده 36 سنة زي صغيرهم ابن الـ23 سنة”.
تردّ الدكتورة سهير صفوت دافع الأم لرفض الابن والحفيد إلى الفضيحة التي لحقت بها. تؤمن بوجود رغبة داخلية لديها في رؤية الطفل، لكنها تدفع الفكرة لأن الاعتراف به سيجلب لها مزيداً من الوصم.
تفسر نبيلة عدم قدرتها على النظر إلى حفيدها بعِظَم حجم “الغلط”، مبررة أن رحمة الله نفسه لا تسعها. تنظر إلى الصغير كنتاج لعلاقة محرمة. يُغضبها سؤال “هل طلبتِ يوماً رؤيته؟”. ترد بعصبية مندفعة: “أعمل بيه إيه!”. لكن ربما يتغير إحساسها بقدوم طفل آخر: “هيبقى بتاعنا، لأنه جاي بالحلال”.
“الضيق ماسكني وبس”
في ريف محافظة الدقهلية الذي تقطن نبيلة إحدى قراه، يُنظر إلى العلاقات خارج إطار الزواج على أنها “محرمة”، تستدعي رفض الناس، ويوصم أصحابها وأهلهم بالعار، بينما تضم قرية نبيلة وحدها 4 شقق للجنس التجاري غير المقنن، وفقاً لما يؤكده لرصيف22 شاب من القرية ينتمي لنفس عمر ومهنة محمود.
أولاد نبيلة الخمسة جزء من مجتمع تخبرنا الأرقام، رغم ندرتها، بأن المعرفة الجنسية فيه منقوصة، وتدفع بالشباب إلى الحصول عليها بطرق أخرى، سواءً افتراضياً أو واقعياً.
ويوضح تقرير نشرته مطبوعة تابعة لجامعة هارفرد في عام 2015 أن العلاقات خارج إطار الزواج مستهجنة على نطاق واسع.
ترى نيفين عبيد أن الفئات التي توصف بـ”الانغلاق” هي الأكثر قبولاً لاحتواء الفعل الجنسي، من منطلق “لَمّ الفضيحة”، بخلاف الفئات الطليعية صاحبة مفاهيم الكرامة والاعتزاز بالذات، وغيرها من القيم الحقوقية.
تفسر عبيد الفجوة القيمية لدى نبيلة بالقبول الخفي، الذي يمكن في ضوئه قراءة جمعها بين رفض أسرة ابنها من ناحية، ومعارضة رغبته في تطليق الفتاة لاحقاً.
وفقاً لكتاب “الجنس والقلعة”، الذي يناقش الحياة الجنسية للعرب، يطمح معظم الذكور إلى الزواج من عذراء، رغم قبول 70% منهم مبدأ ممارسة الجنس قبل الزواج، وتصريح ما بين 30% إلى 60% منهم بأنهم دخلوا في علاقات جنسية قبل الزواج، في مقابل 80% من النساء أكدن أنهن لم يفعلن.
لم تهتم نبيلة يوماً بحديث الناس عن العلاقات التي تجمع رجالاً بنساء خارج إطار الزواج. اليوم تنصت، إمعاناً في الكراهية: “ببقى عاوزة أعرف الاتنين دول مين، عشان أكرههم زي ما كارهة ابني”. أسألها: هل تكرهين ابنك أم أنك غاضبة منه فقط؟ ترتبك، ثم تتابع: “والله الضيق ماسكني وبس”. إذا ما رأت ولداً وبنتاً يتسامران، تحاول التفريق بينهما: “في القطر شفت اتنين طلبة، رُحت كلمت البت، تاخد بالها من روحها، ومتكلموش”.
في نهاية إحدى الزيارات، وبينما نقف على الباب الخشبي لدارها، رأيتها ترفع يدها باتجاه منزل مجاور يتكون من أربعة طوابق: “أهو دا بيت عيالي، شِركة (بالشراكة) مع عمهم. كان المفروض محمود يسكن معاهم، بس…”. يأتي الصمت على باقي كلامها، فتسكت، وأرحل أنا.
المصدر: موقع رصيف 22.
قسم: حياة.
تاريخ النشر: 20/11/2019.