cropped-Logo-1.png

كتالوغ العلاقات في مصر… مجتمع يفرض القهر ويرفض الإرادة الحرة

تعاني الفتيات اللواتي يتعرضن لعنف جنسي ضغوطاً اجتماعية تدفع بعضهن إلى الصمت، أما مَن يقررن الإعلان عنه فيتعرّضن للوصم. هذا الوصم نفسه يلاحق مَن يقررن التعبير عن الحب أو الإعجاب برجل، أكنّ يتبادلن مع شركائهنّ بضعة تفاصيل حميمية تترجم عواطفهنّ، أو يمارسن علاقة جنسية برضا الطرفين.

أكثر من عشرة أعوام مضت على أول دعوى إثبات نسب في مصر، رفعتها هند الحناوي سنة 2005. منذ ذلك التاريخ وإلى الآن، تغيّرت بعض القوانين، وشهدت البلاد انفراجة نسوية وأطلقت مبادرات لرفع الوعي بقضايا النساء، بعد ثورة يناير 2011.

لكن الهجوم لم يغِب عن أي لقاء بين شاب وشابة غير متزوجين “شرعياً” وشوهدا في وضعية حميمية ما. فالطريقة التي يرى فيها المجتمع شكل العلاقة المثالي محصورة في الزواج “الشرعي”، وكل ما عدا ذلك يستوجب إدانة الفعل والفاعلين.

“مع العنف وضد الحب غالباً”

في أحد شوارع بورسعيد، تبادلت ندى (25 عاماً) وحبيبها قبلة وعناقاً. تدافع أكثر من شرطي نحوهما. اعتدوا عليهما بالضرب، وأُخذوهما إلى قسم الشرطة.

تقول ندى لرصيف22: “ركبت بوكس (سيارة شرطة) واتمسكت آداب”. تعبّر عن استغرابها من حماس الشرطيين أثناء ضربهما، مبدية اعتقادها بأنهم ما كانوا ليتدخلوا بحال كانت الواقعة اعتداء عليها منه، كما يحدث في مواقف مشابهة تُترك فيها النساء فريسة للمعتدي، ولا سيما إنْ كان شريكها. “يمتنع الجميع عن التدخل تحت اسم ‘التأديب’”، تضيف.

وتقدَّر نسبة المصريين الذين يعتقدون أن على المرأة طاعة زوجها بـ85%، بحسب إحصائية تعاون عليها باحثان، الأول من جامعة في كوريا الجنوبية، والآخر من جامعة نمساوية.

لا تستطيع ندى فهم السر وراء ذلك سوى أنه الكبت الذي يعانيه هؤلاء الشرطيين، بالإضافة إلى القهر الذي يمارسه الناس ضد بعضهم بعضاً، ما يجعلهم يقبلون بعلاقات أساسها “الغصب” على حساب الرغبة.

سنة مرت على الموقف الذي تعتبره ندى من أصعب التجارب. تتحسس عند ذكره، ولا تريد أن تسترجع تفاصيله. تحكي بصعوبة عن نوبات هلع لازمتها لفترات طويلة، ما أن يعاودها مشهد الاعتداء عليها، ليس لسبب سوى التعبير عن حبها، بصدق وبدون أذى لأحد، على حد وصفها.

تروي: “أنا وهو أكلنا ضرب بغباء”، وتردف: “لو أي واحد من ولاد…. دول كان معاه صاحبته كان هيحب يبوسها”.

لندى تعريف للعلاقة الجنسية أساسه أن “أي علاقة بتراضي الطرفين، لا يحق لأحد التدخل فيها”، وتنتقد العلاقات القهرية، وأكثرها بشاعة في نظرها هي تلك التي لا يشعر فيها الطرف الآخر بهذا القهر والاستغلال، بل ويعتبر أن ما يقوم به حق له.

يوافق تعريفها مفهوم “الرضائية الجنسية” التي تقوم على ضرورة موافقة الشخص على إقامة علاقة جنسية في كل مرة تُمارَس فيها، بغض النظر عما إذا كانت ضمن إطار الزواج أو خارجه.

وبرأي أستاذة علم الاجتماع سهير صفوت، كلما زاد الفقر والأمية انحدرت الثقافة، والثقافة الفقيرة تشكل ضغطاً على العلاقات، وحتى على التفاعلات اليومية.

انتهت مشكلة ندى بواسطة صديق للعائلة سمحت له علاقاته في وزارة الداخلية بتخليصها من “ورطة عائلية”، لربما أودت بحياتها، رغم أن والديها الموظفين متفهمان فهما في النهاية ينتميان إلى الطبقة المتوسطة في المجتمع.

اكتفى مركز الشرطة بتسجيل محضر “اشتباه” لهما، لكن ندى لم تنجُ من مضايقات كلامية وهي تخرج من القسم. علمت العائلة بعراك وقع بين ابنتهم وأصدقائها مع أحد ضباط الشرطة من باب الخطأ، أما تفاصيل الواقعة بالتحديد فليس لديهم فكرة عنها. اكتفى صديق العائلة بالتعامل مع الموقف دون الرجوع إلى صديقه والد ندى. وتصفه الشابة بأنه “راجل دماغه كبيرة (عاقل)، لم يتعامل معي بدونية حتى”.

الفعل الجنسي بين الإرادة والازدراء

شكل هذا اليوم نقطة فاصلة في علاقة ندى بحبيبها. “صار يعاملني بطريقة رخيصة”، تقول. راح يكرر طلبه بالدخول في علاقة جنسية معها. انفصلت عنه لاحقاً.

مؤخراً، حظيت نساء دخلن في علاقات رضائية على قدر من الدعم، لكنه بقي محكوماً بسياق الواقعة الاجتماعي والطبقة التي ينتمي إليها الداعمون، بالإضافة إلى وجود طفل أو لا كنتاج للعلاقة.

فمع غياب الأطفال واختلاف بيئة الواقعة، يأتي الضغط أعنف، حتى وإنْ لم يتجاوز الفعل كونه تعبيراً حميمياً، مثلما حدث مع طالبي جامعة المنصورة اللذين خضعا للتحقيق ومُنعا من دخول الامتحانات لفصل دراسي، عقاباً لهما على احتضان بعضهما علناً.

قانوناً، لا يوجد في مصر ما يُجرّم العلاقات الرضائية أو التعبير الحميمي عن الحب في صور متعددة، لكن بعض النصوص المطاطة تقف خلف تأطير تلك الوقائع لتصبح مخالفة أو جريمة تستوجب العقاب.

واستناداً إلى قاعدة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، يشرح المحامي أحمد حشمت أن القانون المصري يبيح العلاقات الرضائية، بينما يُقر بمخالفات للسلوك والآداب العامة ويترك تقديرها للسلطة التنفيذية.

ويضيف أن المحاضر الشرطية تؤوّل بعض الوقائع على نحو يمكن تصنيفها “فجوراً وممارسة للرذيلة”، وهي جرائم منصوص عليها في القوانين، وهناك تركيز على مكان الواقعة كعامل رئيسي لتصعيد الإجراء القانوني، خصوصاً في كل ما يعد مجالاً عاماً، ومنها الشوارع.

الحاجة إلى المشاركة

مع اختفاء أثر النهار، التقيت إيمان (33 عاماً، ربة منزل) خارج منزلها في دلتا مصر. وأتى الحديث عن الجنس من دون سؤال مباشر مني، وكنت أعتقد أنها تحتاج وقتاً لكسر الحاجز بيننا، لكن حاجتها إلى المشاركة كانت أكبر.

ورغم تحفظها في استخدام عبارات جريئة، قصّت عليّ حكايتها دون مواربة: تنهي إيمان مهام اليوم، ثم يأتي الليل حاملاً معه ثقل الفعل الأصعب على روحها، عندما يقرر زوجها ممارسة الجنس معها. تستقر في عقلها أفكار وهواجس، مفادها أن علاقتها الزوجية لا تعدو كونها “تأدية واجب”. ثمة خطأ تعيشه في كل مرة تحدث الممارسة، بالإكراه تارة، وبالقبول المغلف بالخوف تارة أخرى. في الحالتين، لا تدرك تعريفاً واضحاً للتعدي الواقع عليها.

تعرضت نسبة 4% من النساء للعنف الجنسي من الزوج، وفقاً للمسح السكاني لعام 2014، إلا أن كلمة الاغتصاب ليست مدرجة في قاموس الزواج بالنسبة لأغلب النساء في القرى والبيئات المنغلقة تحديداً، وإيمان واحدة منهن.

جرائم مسموح بها

لا يعترف القانون المصري بجرائم مثل “الاغتصاب الفموي” أو “الشرجي”، رغم سلسلة من التعديلات التشريعية في ظل خطاب رسمي يقول إنه داعم لحقوق المرأة، ويخصص عاماً للاحتفاء بها.

ينمو خوف إيمان ويمتد خارج المنزل، مع أخواتها وجاراتها. الخوف نفسه ألزمها الكلام بصوت منخفض طوال المقابلة. دعتني للانتقال إلى منزلها لاستكمال الحديث بدلاً من الجلوس على عتبات منزل خاو، في حارة جانبية شبه خالية من الناس. أبقت عينيها الخضرواين مثبتتين على باب الحجرة، تراقب احتمال دخول أحد أطفالها، بينما تتطلع إليّ وتسرد قصة تلو الأخرى.

تشارك إيمان باقي النساء شكواهن من تدبير الشؤون المنزلية وتربية الأولاد، لكنها لا تفصح عن أي شيء بخصوص الجنس، ليس لأنه “عيب” فقط، بل لأنها تخشى أن يُسيء الآخرون فهمها إنْ هي أعربت عن انزعاجها من الطريقة التي يتعامل بها زوجها معها. تقول: “أختي نفسها هتفهمني غلط”.

تقول سهير صفوت إن العادات والتقاليد تستنكر نوعية أحاديث معينة عن الجنس والجسد، ما يترتب عليه جهل وخوف. “بنطلع مش عارفين حاجة عن بعض، بنعمل كل حاجة في الخفاء، والمهم نبقى تمام أمام الناس”، تضيف.

قهر إيمان يشمل تحذير زوجها لها من القيام بأي أمر يبرز أنوثتها، حتى ولو كان أثراً لكحلٍ حول عينيها أو رائحة عطر على جسدها.

بعد أكثر من 10 أعوام من الزواج، لم يعد رضاها شرطاً لممارسة الجنس. لا تراودها رغبة فيه، لكنها لا تستطيع منعه، وعلى النحو الذي يختاره الزوج. توقفت عن إبداء ميلها للمداعبة، ولم تتوقف عن اختلاق الحجج.

يراودها “شعور بالذنب من الله”، لأنها ترى الجنس حقاً شرعياً مكفولاً للرجل بموجب عقد الزواج، ولا تستطيع البوح بشيء من كل هذا لأن الحديث في أمور الجنس سبب لوصم المرأة بأنها “قبيحة”.

في كتابه “مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”، يُسند عالم النفس مصطفى حجازي القهر الحياتي إلى سلسلة طويلة من استلاب القدرات العقلية والتحليلية للإنسان.

يوضح أن هذا القهر يمارسه كل مَن يملك سلطة على طرف أضعف منه، وبذلك يُعاد إنتاجه عبر سلسلة من العلاقات بين أطراف في مواقع مختلفة. يتركز القهر بيد مَن يملك قوة فرض وصايته ضد أي موقف نقدي تجاه مجتمع كبير، يبتلع الصغير على اختلاف ماهيته، بما لا يدع مجالاً للتشكيك في الصور السائدة ومراكز القوى المفروضة من قبل.

وترى انتصار السعيد، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون، وهي منظمة غير حكومية ذات توجه نسوي، أن الظروف الاجتماعية تتضافر مع العوامل التي تؤثر سلباً في حصول المعنفات على حقوقهن. فنظرة المجتمع للمرأة، إذا جهرت بشكوى من هذا النوع، تُربكها، عدا الإشكاليات القانونية التي تَحول دون إثبات العنف، إضافةً إلى افتقار المجتمع لثقافة التعامل مع الناجيات.

لا تذكر إيمان أن والدتها سبق وقدمت لها أي توعية جنسية. لا تفكر في التعبير عن رفضها بصورة جازمة. بصوت هامس تقول: “كام مرة قلته إني بتضايق، لكن مفيش فايدة”.

المصدر: موقع رصيف 22.

قسم: حياة.

تاريخ النشر: 23/10/2019.

رابط القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *