“نحن الآن في علاقة مستقلة، تكفل لنا انفتاحًا كليًا، تناقشنا واختلفنا إلى أن اقتنعنا سويًا بأهمية ذلك في شعورنا بالحرية، وأن أحدًا ليس ملكًا للآخر أو سعادته حكرًا على الآخر، وهذا ما يجعل زواجنا ناتجًا عن رغبة في البقاء معًا، وليس لأننا لا نملك خيارًا ثانيًا”، يقول محمد (اسم مستعار) شاب عربي، متزوج من فتاة أوروبية مسلمة، ويعيشان في مصر. في تقرير التنمية الانسانية العربية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2016، أرجع وجود أنماط أسرية متغيرة إلى المواجهة التي وقعت بين حقائق الواقع الأبوي والأسري مؤخرًا من جهة وبين التحديات التي نتجت عن التحولات الاقتصادية والديموغرافية، وارتفاع معدلات التعليم في مقابل انخفاض معدلات الخصوبة، وفقًا للتقرير، الذي يرصد التغيرات في بنية الأسرة، ويربطها بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى البحث عن بدائل أخرى للأنماط التقليدية وما يرتبط بها من مشكلات اجتماعية، تبرز في المجتمعات التي تعاني القهر والنزاع كما هو الحال في الكثير من الدول العربية.
اتفاق سبقه ارتباط
كان محمد شديد التحفظ في سرد قصته، حينما عرضت عليه المشاركة بشكل مجهل، صمت للحظات وأومأ موافقًا على المبدأ “ممكن”، حينما بدأنا اللقاء استأذنته في التسجيل، رفض تمامًا، قائلًا “مش هحس براحة لوجود تسجيل بصوتي بتكلم فيه بصراحة عن تفاصيل خاصة، هكدب”، استبدلت المسجل، بدفتر وقلم. حكى لي أنه تعرف على زوجته، من خلال صديقة مصرية مشتركة، بعدها كان يبحث عمن يشاركه في حفلة غنائية أعتذر صديقه في اللحظة الأخيرة عن الذهاب إليها، تاركًا تذكرة إضافية، عرضها عليها، فوافقت، “تحدثنا لفترة طويلة، أمضينا أوقاتًا رائعة منذ تلك الليلة، ولعدة أيام بعدها، لم يكن هذا في الحسبان، لكننا انسجمنا، وتطورت العلاقة من معرفة، لارتباط لم يكن أي منا على يقين من أنه سيكتمل بهذه السرعة، لكنه كان بفضل شعورنا المشترك بالارتياح والرغبة في مواصلة العلاقة”.
قرار محمد وزوجته بالزواج، يرجع لسببين، الأول أن القانون المصري لن يمنحه فترة إقامة ثانية بعد انتهاء دراسته بإحدى جامعاتها الآن، وكذلك قانون الدولة التي تنتمي إليها زوجته، لهذا كان لا بد من وجود رابط رسمي يضمن لهما البقاء سويًا، أما الثاني فيتعلق بخوف زوجته من التحريم الديني لمواصلة حياتهما ولا سيما الجنسية بدون زواج، أتما إجراءات الزواج، بتوثيق عقده مدنيًا، بعد فترة من الارتباط، اختبرا فيها كل شيء معًا. يأتي في مقدمة التغييرات التي يرصدها التقرير الأممي نفسه بروز أنماط أخرى من الزواج، وصفها بغير المستقرة، إذ حصرتها الدراسات القليلة التي أجريت على هذه الأشكال من الزواج، على الزيجات المؤقتة، والتي تحابي الرجال، وتفقد النساء فيها الكثير من حقوقهن الزوجية كما أشار، بالإضافة إلى ارتفاع متوسط عمر المقدمين على الزواج، مقارنة بما كان قبل نصف قرن، لكن هذه الطريقة التي تمنح الزوجين قدرًا غير مسبوق من الخيارات المستقلة، لم يتطرق إليها. يعملان كـ “فري لانسر” في بعض المجالات، منها الترجمة، يوضح محمد “عندنا 3 حقائب لحفظ النقود، حقيبتي، حقيبتها، وحقيبتنا المشتركة، التي نضع فيها مصاريفنا مناصفة”، لتشمل الانفاق على المستلزمات المشتركة كالطعام مثلًأ، أما ما يخص كل منهما فلا دخل للثاني به، تناصفا جميع النفقات من اللحظة الأولى، حتى “محابس الخطبة”، لكن هذا لا يمنع أن يبادر أي منهما بتقديم شيء ما للآخر، كدفع جزء من مصاريف جامعية لا يملك صاحبها نقودًا لها، بدون أن يكون ذلك واجبًا مستحقًا لأي من الطرفين. يعيشان في سكن مشترك مع مجموعة من الشباب من جنسيات مختلفة، يتقاسمان الغرفة ذاتها طوال فترة ارتباطهما، وحتى بعد الزواج، يؤدي كل منهما دورًا في بعض أعمال المنزل، بينما يقوم محمد بدور أكبر فيها لأنه يحب الطبخ، ويميل إلى عدم إزعاج شركائه في السكن من جودة التنظيف إذا ما قامت به زوجته خارج حدود غرفتهما، لكن بداخلها تتولى الزوجة مسئولية التنظيف والترتيب، لأنها المساحة المشتركة بينهما.
موازين القوى بين الذكورية والمساواة
المجلس القومي المتخصص في أبحاث الأسرة بأمريكا “إن سي إف أر” أجرى دراسة عن الفردية في الزواج من واقع الممارسات الحياتية للمتزوجين والثنائيات العاطفية، استعانت الدراسة بمقارنة أجراها باحثان لنماذج من المتزوجين خلال فترة الثمانينيات، وما بعدها، خلصا من خلالها، إلى أن الأحداث من بينهم، يحظون بحياة مستقلة، إذ باتت الأنشطة التي يتشاركونها أقل، وكذلك الدوائر من الأصدقاء صارت أكثر انفصالاً اليوم، بل إن هذا النوع من الزواج يُمكن أي منهما من الحصول على الدعم والعواطف من علاقة آخرى، في حال توقف الزواج عن إمداده بها.
بينما أكتب وأتطلع إليه، فأجده يراقب ملاحظاتي، ويسترق النظر إلى دفتري من حين لآخر، كما لو أنه غير مرتاح إلى وجوده أيضًا مثل المسجل الذي رفضه سلفًا، فأترك القلم، وأعول على جرعات زائدة من التركيز في الانصات إليه،” أحيانًا بحتاج أحس إني مرغوب منها، أترك لها مساحة، لتدعوني إلى الفراش” هكذا فسر محمد انعكاس النمط المختلف لزواجه على العلاقة الجنسية، التي غالبًا ما ترتبط فيها القوة بالسيطرة الذكورية، لكن هذا النمط لا يعبأ فيه بالتقاليد التي تحكم المجتمعات الشرقية.
التابوهات الاجتماعية لا تحكم علاقتهما، لأنه من وجهة نظر الثنائي فإن الرغبة لا ترتبط بجنس الانسان، الذكور والإناث لديهم بحاجة للأمر نفسه، مضيفًا “المبادرة الجنسية مش حكر عليا بس، عشان ميبقاش العادي إني أنا الذكر المتطلب زي أغلب العلاقات هنا”، كذلك لا يقتصر الاستمتاع على طرف واحد، “لازم الاتنين يعرفوا جسمهم كمان كويس” وفقًا لمحمد. الدراسة ذاتها تفيد بأن القيم التي عززت من مفهوم الاستقلال في الزواج، تنطلق من فكرة التحرر من القواعد القوية التي كان يتسم بها في الماضي، وإعادة توزيع المسؤوليات لكل من الرجل والمرأة في إطار العلاقة الزوجية، فلم يعد الإنفاق دور الرجل بشكل أساسي، ولا الأطفال مسؤولية المرأة وحدها، صارت لاهتمامات الزوجين الفردية قيمة أكبر، العلاقة الزوجية الآن ليست محكومة بما يفترضه المجتمع، وما يمليه الآخرون على الزوجين، حتى لو كان الآخر هو أحد الزوجين، كما جرت العادات سابقًا، حيث يتخلى كل منهما عن العديد من الأشياء التي تخصه، لكن هذا النمط يعطي الزوجين أولوية لتفضيلاتهما الفردية، بمعزل عن الآخر. ويعتقد محمد أن هناك مساحة كافية في العلاقة تخول لهما تبني قناعات متباينة، استقلالية العلاقة تكفل للطرفين حرية فردية، تتوقف عن القرارات المشتركة، التي لا مجال لإهمال طرف على حساب الآخر، لكنه يؤكد “مفيش حد مبيتغيرش” لتوضيح أن الارتباط أضفى تأثيرًا عليهما، يبرز في احترامه لبعض رغباتها، كأن يمتنع عن الاستغراق في نقاشات قد تعتبرها ازدراءًا لفئة أو دين، بينما يصنفها هو حرية تعبير، أما هي فباتت أكثر صراحة تجاه أشياء كانت مربكة بالنسبة لها سابقًا، ينبع هذا من اتفاق أبرماه سويًا، لكن هذا لا يمنع وجود خلافات، يتعاملان معها كفرص جديدة لاكتشاف جوانب جديدة في العلاقة، تقويها.
عن الجمع بين الزواج والحرية الفردية
ترى “سهير صفوت” أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس أن هذا النمط غير شائع في مجتمعنا العربي، بينما يمثل الطريقة الطبيعية في الدول الغربية، وتعتقد أنه قد يكون انعكاسًا لسياق اجتماعي يهتم بالفصل بين الحدود المادية والمعنوية في العلاقات، وتوزيع غير نمطي للأدوار داخل الأسر نشأت فيها هذه الثنائيات، وفضلته على الزواج التقليدي، وربما يكون نوع من الرفض لتجارب سلبية اعتمادية، لا يريدون تكرارها، وسيؤثر ذلك على أبناء هذا النمط، لأنهم سيكونون نتاج تربية تشاركية، أكثر وعيًا بالفروق بين الحقوق والواجبات.
على مدار ثلاث أشهر، هي فترة ارتباطهما قبل الزواج، تشاركا الكثير من الأنشطة والتجارب المختلفة، ولكنهما اتفقا على أن المشاركة لا تعني التطابق، وغياب شخصيتهما كفردين مستقلين تمامًا، لكل منهما مساحة تفصله عن الآخر، ودعما ذلك أثناء فترة تجهيز منزل الزوجية، الذي يشمل غرفة لكل منهما تحتوي على أغراضه الشخصية، تقول غادة “هو عنده أوضه، فيها كتبه وجيتاره، وحاجاته، وأنا ليا أوضة بفرشي وألواني، غير أوضة نوم بنجتمع فيها سوا”، مضيفه “البيت متقسم بينا”. تعلل “سهير” ذلك بدخول تغيرات ثقافية من الخارج على المجتمع، تمثلها ثقافة العولمة، التي تخلق كيانات قائمة بذاتها، هذه الكيانات أخذت هذا الشكل إلى داخل المنزل، وبالرغم من إشارتها إلى عدم قدرتها كمتخصصة الحكم على هذه التجارب، لأنها لا تزال في طور التحقق بحسب وصفها، إلا أنها تؤكد على وجود تأسيس لفكر جديد في الزواج، بدأ يعرض في بعض الأعمال الدرامية.
المقابلات الدائمة بين غادة وزوجها لا تعني بالضرورة وجود شيء يرتبط فيه كل منهما بالآخر، ففي كثير من الأحيان قد يكونان سويًا ويفعل كل منهما شيئًا مختلفًا، وهذا ما تؤكده “كنا بنشوف بعض يوميًا قبل الجواز، للقراءة أو المذاكرة، وأحيانًا كنا بنقعد سوا في بيت أهله، أو بنوضب في شقتنا”، لم يختلف الأمر كثيرًا بعد الزواج، إلا أن تعدد نواحي الحياة الزوجية، أخذت استقلالهما إلى مستويات أعمق. يختلف نمط الحياة بين بطلي هذه الحكاية، اللذين قررا منذ اللحظة الأولى، أن الطريقة المتعارف عليها للزواج لا تناسبهما، من حيث التدخلات القوية من قبل أحد الأطراف أو حتى الأهل، كما لم يشأ أي منهما أن يصطدم بأسرته، ترى غادة أن فكرة الزواج بين عائلتين، لا فردين سيئة للغاية، إلا أن ذلك لم يمنع ترضية الأهالي بقبول جزء من العادات، تتمثل في فرح للأسرتين في بيت العريس، “فرحوا براحتهم، وكنت أنا في شقتي، يعني مجتش على نفسي، وهم نفذوا اللي عاوزينه” على حد قولها. تعود سهير إلى الوراء قائلة “منطق الأتفاق بين الزوجين على توزيع الأدوار والمهام، بشكل غير سائد في المجتمع موجود من عشرات السنين، لكن على استحياء، والمجتمع كان يتندر به ويرفضه”.
المصدر: موقع رصيف 22.
قسم: حياة.
تاريخ النشر: 5/12/2018.