من اللحظات الأولى لأزمة كورونا (كوفيد 19)، قاد بعض المسؤولين وأصحاب الأعمال توجه استمرار الإنتاج، ولو على جثث العاملين، دافعوا عما أسماه صاحب الأعمال المصري نجيب ساويرس “نزيف اقتصادي”. في أواخر إبريل الماضي، عندما أعلنت الحكومة نيتها للفتح مجددًا، بررت ذلك بالسعي إلى تقليل الخسائر الإقتصادية؛ إلا أنه على الجانب الآخر، يدافع البعض عن البقاء في المنزل للحفاظ على الصحة حتى لو كان على حساب الاقتصاد.
شرائح أكبر عدديًا ومرضى أصغر عمريًا
يرى المتبنون للعودة أن التضحية بالعاملين تقلل من الخسارة الإقتصادية. تشمل التضحية إجبارهم على العمل، أو تخفيض رواتبهم، أو الإستغناء التام عنهم. يعتبرون أعداد الموتى “قليلة”، وأن أرواح العاملين من الفئات الأصغر آمنة، لأن أغلب المتوفين مسنون. يتسم هذا الطرح بالهشاشة، لأن منظمة الصحة العالمية ردت على ذلك بالتحذير من أن الشباب ليسوا محصنين ضد كورونا، ووفقًا لتصريح المنظمة، فإن 90% من الإصابات في مصر بين (20-80) عامًا، أي أنها لم تخل ممن هم من الفئات العمرية العاملة. الأهم أن مقاومة المرض تعتمد على قوة المناعة بشكل أساسي؛ وهو الأمر الذي يعتمد بشكل كبير على النظام الصحي لكل دولة ومدى انتشار الأمراض المزمنة بها.
بحسب رئيس التحالف المصري للأمراض المزمنة عبد العزيز السيد “أمراض السكري وأمراض القلب والصدر المزمنة والسرطان مسؤولة عن 85% من الوفيات في مصر”. يجري ذلك في الأوضاع العادية، فماذا لو أن هذه الأمراض توافق الأمراض التي قالت وزيرة الصحة هالة زايد أن “بعض الدراسات الحديثة كشفت عنها بصفتها الأسباب الأكثر شيوعاً للوفاة من فيروس كورونا”. وبالتالي يواجه عدد كبير من المواطنين المصريين فيروس كورونا بمناعة ضعيفة نظراً لتفشي الأمراض المزمنة؛ مما يجعل إحتمالات الوفاة عالية لدى كل الشرائح العمرية ولا يحصرها بالمسنّين.
وفقا لمعهد جونز هوبكنز، تجاوز عدد الموتى الربع مليون، والمصابين أربعة ملايين، خلال حوالي ثلاثة أشهر من نشاط الفيروس، رُوعي فيهم تطبيق الحظر. إذا تعاملنا مع هذه الأرقام كمؤشر لقياس حجم الإصابة والموت، خلال عام واحد على الأقل في ظل بقاء الأزمة، وتوقع حدوث موجة ثانية في 2021، فمن المحتمل احتساب الضحايا بالملايين.
يعني ذلك أن سيناريو العودة يُفقد عملية الإنتاج أحد أهم مكوناتها الثلاثة، وهو العنصر البشري. سينعكس ذلك على المؤشرات ذاتها التي تستخدمها فرضية الفتح، لبيان ضرورة رجوع الحياة لطبيعتها، مثل معدلات النمو، والناتج الإجمالي المحلي. بل ويناقض الشعار المرفوع في العديد من البلدان، من بينها مصر “علينا إزالة قيود الحظر وعودة الحياة لطبيعتها حتى لا ينهار الإقتصاد ويموت الناس جوعا بدلا من الموت مرضا”. في الوقت الذي تستخدم الحكومة التبني الواسع لسيناريو العودة كمؤشر لصحة هذا الشعار، وكدافع لتبنيه. ويؤكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في خطابه على أن ما نفعله “ربط لحراكنا وخطواتنا بالعالم”.
في السياق نفسه، يتهدد الإقتصاد بطرد العاملين، مما يؤدي إلى تقليل الناتج الإجمالي المحلي نتيجة البطالة، بالإضافة إلى أن تخفيض رواتب بعضهم وإقالة البعض الآخر، يقلل السيولة المالية ومن ثم الإستهلاك، نتيجة تراجع القوة الشرائية، لأشخاص فقدوا كل دخلهم بفقدان الوظيفة، أو جزء منه بعد تخفيض راتبهم. بالتبعية يتراجع الطلب على كثير من السلع والخدمات، غير الأساسية بالأخص، التي حتى وإن افترضنا استمرار إنتاجها فلن يكون لذلك معنى، بل ستمثل خسارة أكبر، وهو ما تتوقعه المبادرة المصرية للحقوق الشخصية[1]، “إذا استمر الإنتاج بنفس معدلاته ومات مئات الآلاف من العاملين، هل سيبقى من ينتج تلك السلع والخدمات؟ بالطبع لا، لأن الموتى لا يذهبون إلى العمل”.
من ناحية أخرى، يتطلب استتباب الحياة الإقتصادية شعورا عاما بالأمان. يحول توغل المرض دون وجوده، ليس فقط لدى العاملين ولكن أصحاب الشركات أنفسهم بحسب دكتور الإقتصاد جوناثان بورتس، سيتوقفون عن الإستثمار لفترة طويلة للحفاظ على مواردهم المالية[2].
تبدو تصريحات ساويرس متضاربة، إذ أنه يحذر فيها المستثمرين من شراء أسهم في البورصة ويدعو لعودة العمل في آن واحد، تدلل المغالطة المنطقية هنا على ما يقوله بورتس، وتنفي وحدها احتكام أصحاب الأعمال إلى المعايير العادية في تعاملاتهم الإقتصادية خلال الفترة القادمة. كأنه على العمال أن يعودوا للحياة الطبيعية، وعلى المستثمرين أن يتعاملوا باستثنائية، تحثهم على التريث في استثماراتهم وعدم المراهنة بما يملكون. يخلق التناقض هنا خللا في صيرورة العملية الإقتصادية نفسها، حينما تتحرك عناصر الإنتاج في مسارات متناقضة. يحيلنا ذلك إلى الإلتفات إلى ضرورة مراعاة الاتساق بين عمل العناصر، عمال وملاك وأموال.
لمن تنحاز الدولة؟
يمثل العاملون بالقطاع الخاص 80% تقريبا من إجمالي المشتغلين في مصر. لم تتدخل الدولة، لتضمن بقاءهم في المنزل، أو تخفيض ساعات عملهم، حينما اتخذت إجراءات احترازية لصالح العاملين في القطاع العام، منتصف مارس الماضي. عقد وزير القوى العاملة آنذاك اجتماعا، دعا فيه لمراعاة صحة العاملين بالقطاع الخاص، لكنها دعوة غير ملزمة. بالرغم من أن القانون يلزم المنشآت باتخاذ إجراءات الحماية اللازمة للحفاظ على العمال في ظروف الأوبئة، ويمنح الدولة سلطة التفتيش للتأكد من تحقق السلامة والصحة المهنية[3].
نظريا، تملك الدولة مسوغات قانونية تُمكنها من التفاوض مع شركات القطاع الخاص، إلا أنها بدلاً من الضغط للحصول على مكتسبات تدعم العاملين فيه، تتجه الآن إلى الإستجابة لما نادى به أصحاب الأعمال من البداية، بل وتتجه إلى تعميمه على القطاع العام.
خصصت الحكومة المصرية 100 مليار جنيه لمواجهة فيروس كورورنا ، فذهب أغلب المبلغ إلى دعم الإقتصاد من خلال دعم المصانع والشركات والمُصدرين والبورصة. لو افترضنا أنها تدعم العاملين في هذه القطاعات بتقديم مساعدات للقطاعات ذاتها من أعلى، فإن الطريقة التي جرى توزيع هذا الدعم بها غير مباشرة، تذهب إلى الملاك، ولا تقترن بضمانات لوصوله إلى العاملين، كأن تأخذ عليهم تعهدات بعدم التسريح، أو اشتراط صرف جزء منه على إجراءات تخص التعقيم والتطهير. كما لم تراع السياسات العامة للدولة في الخطة، الفئات الأكثر احتياجا، من محدودي الدخل الذين بقوا خارج نطاق الإعفاءات الحكومية، لأنهم لا يملكون مشاريع ولا حتى حسابات مصرفية ولم يرفع عنهم استحقاقات مثل دفع فواتير المياه والكهرباء على سبيل المثال[4].
ماذا عن تبعات عودة الحياة على النظام الصحي؟
في الوقت الذي تزداد فيه أهمية رفع كفاءة القطاع الصحي مع رفع الحظر، لم يتجاوز حجم الإنفاق عليه ضمن الخطة 4% من المخصصات بحسب وزير المالية محمد معيط. وهو ما تطرقت منظمة الصحة العالمية في تعليقها إليه قائلة “وضعت بعض البلدان استراتيجية للخروج من الوضع الراهن، وشرعت في رفع القيود، دون تخطيط دقيق، وتوسيع نطاق القدرات في مجال الصحة العامة والرعاية السريرية”، متوقعة “أن يؤدي رفع القيود السابق لأوانه من تدابير التباعد البدني إلى عودة ظهور مرض كوفيد-19 وخروجه عن السيطرة، ويسبب موجة ثانية متفاقمة من حالات الإصابة”. [5]
تعضد تجربة أمريكا في تأخير الحجر من صحة توقع المنظمة. تأخرت الإدارة شهرين في اتخاذ إجراءاتها الإحترازية، خوفا على الإنتاج وأرقام الإقتصاد[6]. أودى هذا التأخير إلى تربّع أمريكا اليوم على رأس قائمة الدولة الموبوءة بالمرض. يعاني الإقتصاد الآن بنسب أكبر مما لو كان طبق الحظر بالبداية لحصر المرض؛ فتفوق اليوم نسب البطالة ما كانت عليه بالثلاثينات. محليا تعطينا بيانات جوجل صورة عن الإرتباط بين حركة المصريين على مدار عدة أسابيع ومنحنى الإصابة. ارتفع المعدل ليصل إلى أكثر من 1000 حالة في اليوم الواحد، بعد تخفيف مواعيد الحظر، وتراجع من القطاع الخاص وبعض قطاعات القطاع العام عن الإلتزام بقواعد التباعد الاجتماعي والعمل من المنزل؛ وبالتالي تراجع إلتزام المواطنين أنفسهم بذات القواعد[7].
يؤكد[8] مدير معهد تحول الرعاية الصحية في بنسلفانيا زيكي إيمانويل أن إرتفاع معدل الإصابة سيحدث تغييرا في أعمار المتوفين بالمرض، سيلقى عدد أكبر ما بين (30-59 عاما) حتفهم. يحول التغيير من إمكانية الفتح طالما أن البنية التحتية الصحية لم تُحدث لتعمل جيدا. “لو بقينا حتى يونيو في نفس المكان، فإن عودة الإقتصاد غير ممكنة مع وجود عدد كبير من الفقراء المعرضين للخطر، لأن العدوى لا تبقى مجموعات محمية دون غيرها”. صحيح أن المقال يُعنى بالوضع في أمريكا لكن ما يهمنا في كلام إمانويل هو المنطق العلمي كمقياس لتقييم إمكانية الفتح وعودة الإقتصاد لدى أي من البلدان، خصوصا مع إشارته إلى نقطتين شديدتي الصلة بالوضع لدينا، الأولى أن الفقراء والشباب يشكلون نسبة كبيرة من الشعب المصري، مما ينذر بارتفاع معدل الوفاة بشكل كبير؛ والثانية هي أنه بمقارنة نظام الصحة الأميركي بالمصري، نجد الأخير أكثر تردياً، مما ينذر بأنه غير قادر على استيعاب ارتفاع عدد الحالات مع معدلات الإصابة والوفاة المرتفعة خلال المرحلة القادمة.
بالرغم من اعتقاد مدير برنامج الحق في الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية علاء غنام أنه من المبكر تقييم قدرة النظام الصحي على مواجهة كورونا، لكنه يوضح أن القدرات الصحية الضعيفة من نقص الأطباء والممرضين وكذلك التجهيزات الفنية الأخرى مثل الأسرة وغرف العناية المركزة غير المؤهلة للتعامل مع الأوبئة. وبالتالي، تصبح الوقاية هي أفضل طريقة لمواجهة الوباء، وتجنّب مرحلة الإنتشار المجتمعي[9].
يعمل رفع الحظر في عكس اتجاه الوقاية من ناحية، وحركة المصابين في ضوء الإمكانيات المُشار إليه من ناحية أخرى، إذ يتنقل المرضى بعد ثبوت إصابتهم من مستشفيات الحمى غير المجهزة، إلى مستشفيات صالحة للعزل، ثم ينتقل غالبيتهم مرة ثانية إلى المدن الجامعية وغيرها من الأماكن المخصصة لاستكمال عزلهم.
تسير الخسارة الصحية والإقتصادية في الاتجاه نفسه[10]. فإذا كانت الحكومات تخشى هبوط ناتجها الإجمالي المحلي جراء الركود الذي لن يكون بالصورة المروج لها بحسب بورتس، لأن الركود هو انخفاض مؤقت وقصير الأمد، فإن استمرار إجراءات الحجر، يجنبها عواقب الفتح قبل حصار الفيروس، وتفشي المرض، حين يضطر أصحاب المصانع والعمال إلى البقاء في منزلهم، وتستولي الرعاية الصحية على التركيز. من هذا المنطلق يحتاج النظام الصحي إلى ضخ أموال أكبر لاستيعاب إرتفاع معدلات المرض. فما هي سياسات ومصادر الدولة للقيام بذلك؟
تخصص موازنة العام الجاري (2019-2020) حوالي 73 مليار جنيه، للإنفاق على القطاع الصحي. ما يعادل 1.2% من الناتج الإجمالي المحلي، بالمخالفة للدستور الذي يقر 3% على الأقل[11]. وفقا لتصريح وزير المالية بتخصيص 3.8 مليار جنيه ضمن خطة مواجهة كورونا، فإنه يلزم الدولة أكثر من 180 مليار جنيه ليصل إلى الحد الأدنى. في هذه الأثناء، تنهي الدولة مشروع الموازنة للعام المالي الجديد، لكنها لم تكشف عن حجم الزيادة، بما يسمح بمواجهة الظرف الراهن.
اكتفى رئيس الجمهورية بالقول “إحنا عندنا احتياطيات مناسبة للأزمة دي، أنا مش بتكلم على وزارة الصحة، واحتياطاتها، ولا القوات المسلحة واحتياطاتها، لأ، بتكلم على احتياطات أخرى”. لا نعرف حجم “احتياطات القوات المسلحة” ولا “الاحتياطات الأخرى” بالطبع. يُطمئن “أحب يكون عندي احتياطات على جنب لمجابهة ظرف مش متوقع، وجه الوقت اللي إحنا، دلوقتي أتصور إن إحنا لو احتاجنا ده هانطلعه”. بنفس الجملة نشرت الصحف تقارير، تفيد بجاهزية المدن الجامعية “في حال احتياجها في أي وقت” [12]، وقد كان. بعد أسبوعين صرح رئيس الوزراء أنهم شرعوا في نقل أعداد كبير من المصابين إليها، لحاجة الحالات الحرجة إلى طاقة المستشفيات، بالإضافة إلى دخول موارد القوات المسلحة خط المواجهة. وهو ما يعكس ارتفاع التكلفة الإقتصادية على الرغم من أن القيود كاملة لم ترفع بعد.
ما يمكننا استقراؤه من حديث الرئيس أن “الاحتياطات الأخرى، التي لا تمس” بحسب تعبيره، استدعتها الأزمة، حينما كان معدل الإصابات حوالي 200 حالة، مع تضاعف الرقم وعدم توافر بيانات حول المخصصات المالية “الأخرى” تبقى معرفة القدرة على المواجهة مجهولة. لكن متابعة مواقف الدولة السابقة تفيد بأن الاستفادة من موارد القطاع الخاص الطبية غير مطروح، سواء في شكل تأميمها، كما فعلت أسبانيا، أو السماح لها بتقديم خدمات مثل تحاليل الإصابة، مع تحديد تسعيرات حكومية، كي لا يساء استغلالها [13]. يبدو من تنبيه السيسي لأحد المسؤولين “هذه الاحتياطات لا تُمس، يا بهاء، هه؟ لا تمس إلا بعد العرض عليّ، خلاص؟” أن تدهور الأزمة يدار بمنعه أو منحه للـ “الإحتياطات الأخرى”.
طرح اقتصادي بديل
والآن نحن أمام سؤال، إذا أبقينا الحظر وتحملنا خسائر قصيرة المدى لتجنب خسائر أكبر وأبعد، من أين وكيف تموله الدولة؟
طرحت بعض المنظمات والباحثين الاقتصاديين تصوراتها لتغطية ذلك، نعرض إثنين منها:
الأول، يدفع بمصر إلى إعادة النظر في مسألة سداد الديون؛ البند الأكبر في موازنة الدولة المصرية لعام 2019-2020 حيث تصل إلى نسبة 47.7% من الموازنة[14]. تقول الباحثة الاقتصادية سلمى حسين أن مصر أمام فرصة لتستفيد من مبادرة منظمة الأونكتاد. تقترح المنظمة مجموعة إجراءات لتخفيف الأعباء الاقتصادية على الدولة المدينة، بتجميد سداد الديون لستة أشهر مع إمكانية التجديد، وتأجيل السداد، وإلغاء بعضها. تتحمل تكلفة الإجراءات المؤسسات والدول المقرضة في هذا المقترح [15]. الثاني، توفير دخل شهري لجميع المواطنين، يطلق عليه “الدخل الأساسي المعمم”. لا يكفل جميع الإحتياجات المعيشية للأفراد، بل يلبي بعض الاحتياجات الأساسية فقط، يمتاز الدخل المعمم بشموله عكس برامج الدعم الاجتماعي المحصورة على الفقراء. يستدعي تمويل هذا الدخل إعادة هيكلة النظام الضريبي، لأن رفع القدرة الضريبية للحد الذي يجعل تطبيق الفكرة ممكنا، لن يسفر عنه نظام يستهدف جيوب الفقراء، وإنما يستهدف الأغنياء بضرائب على الثروة والتركات، أو ضرائب تصاعدية على الدخل والأرباح [16].
المصدر: مؤسسة المفكرة القانونية.
قسم: اقتصاد.
تاريخ النشر: 11/6/2020.